أسباب كثيرة حالت، طيلة السنوات الماضية، ليس فقط دون تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية، بل كانت وراء تفجير الصراع الفلسطيني - الفلسطيني، والتآمر على خيار المقاومة والاستسلام لوهم التسوية كعملية استهدفت، بالأساس، إطلاق العنان لمشروعات الاستيطان والتهويد “الإسرائيلية” وإكساب هدف “الدولة اليهودية” الشرعية الدولية والإقليمية، وإنهاء “الحلم الفلسطيني” في العودة إلى أرض الآباء واسترداد الوطن السليب . أسباب دولية وأخرى إقليمية لعبت أدواراً أساسية، كان أبرزها بالطبع الأدوار “الإسرائيلية” والأمريكية إضافة إلى أدوار المنظمات الصهيونية، لكن يبقى سببان لا يقلان أهمية في عرقلة بل ومنع تحقيق الوحدة الفلسطينية هما السبب الفلسطيني والسبب العربي . في مرحلة من المراحل كان الحديث عن المصالحة الوطنية الفلسطينية يبدو حديثاً فارغاً من المعاني، أو حديثاً “بلا طعم” وبلا منطق إزاء حالة الانقسام والصراع بين الفصائل حول قضايا حيوية واستراتيجية فلسطينية تتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني، هذه الصراعات نالت كثيراً من مكانة هذه القضايا وأدت إلى تآكل فرص تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، وبات مستحيلاً أن يتحدث أحد عن مصالحة في غياب إجابات عن أسئلة من نوع من يتصالح مع من؟ وحول ماذا؟ وكيف؟ غياب الاجابة عن تلك الأسئلة كان محصلة منطقية لتقصير الفلسطينيين بحق أنفسهم وبحق ثوابتهم، وهو التقصير الذي شجع الكثيرين على التجرؤ على هذه الثوابت في الجانب العربي الذي كان بعضه، للأسف، مهيأً للانقضاض بقسوة على “مركزية القضية الفلسطينية” بسبب أجندات خاصة بكل طرف عربي، بعضها له علاقة مباشرة بالأوضاع الداخلية في كل دولة، وبعضها الآخر له علاقة بخرائط تحالفات وصراعات كل دولة، فليس صحيحاً أن كل العرب خاضوا صراعاً حقيقياً ضد المشروع الصهيوني ودولته في فلسطين، وليس صحيحاً أن العالم شهد صراعاً عربياً - “إسرائيلياً” بالمعنى الحقيقي للصراع . لكن الصحيح أن أطرافاً عربية وقوى سياسية ومنظمات حكومية وغير حكومية، خاضت مثل هذا الصراع، ولكن لفترات محددة من تاريخها، ولكن الصحيح أيضاً أن دولاً عربية وقوى سياسية عربية ومنظمات حكومية وغير حكومية لم تكن طرفاً في هذا الصراع، بل إن بعضها كان يعمل في الجانب الآخر، أي جانب تمييع الصراع مع “إسرائيل” والانخراط في سياسات أمريكية تؤدي في النهاية إلى تثبيت وجود الكيان “الإسرائيلي” . لقد كان توقيع نظام أنور السادات في مصر لاتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني عام 1979 خروجاً صارخاً، بل وفاجراً، على ثوابت السياسة الوطنية المصرية كما تأسست طيلة العهد الناصري، لكن هناك من سبقوا مصر بسنوات طويلة في التحرر من أعباء وأثقال القضية الفلسطينية، ومن انحازوا إلى جانب سياسات أمريكية كانت محصلتها دعم المشروع “الإسرائيلي”، وإفشال المشروع الفلسطيني، وهناك من تورطوا في أدوار والتزموا بسياسات أعاقت بل وحالت دون إنجاز مشروع عربي للصراع ضد الكيان الصهيوني، هناك من تحالفوا مع الأمريكيين لإسقاط النظام الثوري في مصر خشية على مواقعهم أو استجابة لمطالب أمريكية مباشرة، وسوف تنكشف حقائق هذه الأدوار عاجلاً أم آجلاً، لكنها كانت، وقبل توقيع نظام أنور السادات على معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني تؤدي خفية ودون تجرؤ على المجاهرة بها، لكن توقيع مصر على تلك المعاهدة أعطى الكثير من الأطراف العربية كي تتجرأ على المجاهرة في صورة دعم ما يسمى تيار السلام، ومحاصرة تيار المقاومة، ثم إعلان الالتزام رسمياً ومنذ عام 1982 بالسلام كخيار عربي وحيد ليس لإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني ولكن لإدارة ما يعرف ب”النزاع الفلسطيني الإسرائيلي” حتى انتهى الأمر بعد الانقسام الفلسطيني الفلسطيني وخروج السلطة من قطاع غزة للحديث عن النزاع “الحمساوي “الإسرائيلي”” . أي نزاع حركة المقاومة الإسلامية “حماس” مع الكيان الصهيوني . لقد كان الانقسام العربي حول العدوان “الإسرائيلي” الإجرامي على قطاع غزة (ديسمبر 2008 - يناير 2009) إعلاناً صارخاً ومفضوحاً للعبث العربي بالقضية الفلسطينية، وكان تورط نظام حسني مبارك في فرض الحصار على قطاع غزة تأكيداً لهذا العبث . غياب نظام مبارك وسقوطه أدى إلى زلزلة تماسك “محور الاعتدال” العربي، الداعم لمشروع التسوية، وكان هذا تحدياً هائلاً للسلطة الفلسطينية . وجاءت أحداث سوريا وسيناريوهاتها الغامضة لتضع حركة “حماس” وغيرها من المنظمات الموجودة بقياداتها في دمشق أمام تحد تاريخي، تضاعف مع إدراك كل هؤلاء للصعوبات الداخلية والإقليمية التي تواجه الحليف أو الصديق الإيراني . الثورة العربية فجرت ضغوطاً لا يستهان بها على طرفي النزاع الفلسطيني: السلطة و”حماس”، لكنها وفرت أيضاً فرصاً جديدة لمستقبل جديد من الوفاق الوطني . فمصر التي دانت، بعد ثورتها، سياسة فرض الحصار على قطاع غزة، وبدأت في تحرير إرادتها الوطنية والتخلص من أعباء الالتزامات السابقة لنظام مبارك مع الأمريكيين و”الإسرائيليين” عادت لتكون “ملاذاً آمناً” للوحدة الوطنية الفلسطينية، والمصالحة التي جرى توقيعها يوم الأربعاء الماضي هي ثمرة من ثمرات هذا التحول الجديد في السياسة المصرية . هذا التحول المصري يواجه تحديات داخلية وأخرى عربية وإقليمية ناهيك عن الضغوط الدولية وخاصة الأمريكية بهدف محاصرة فرض عودة مصر إلى تولي دورها القيادي وإبقائها ضمن دائرة “الاعتدال” التي لا تعني في التحليل الأخير إلا أن تكون ضمن المشروع الأمريكي . مصر التي تموج بالأحداث الداخلية والتنافس بل والصراع الداخلي لم تحسم خياراتها بعد ولن يحدث هذا إلا بعد الانتهاء من صياغة نظامها السياسي الجديد في دستور جديد يجري الحوار حوله، وبعد الانتهاء من الانتخابات التشريعية والرئاسية وإلى أن يحدث هذا كله سيبقى في مصر من يحاربون عودتها إلى عروبتها أو أن تبقى كما كانت في عهدي السادات ومبارك . أن التعويل الفلسطيني على نجاح المصالحة يجب أن يبقى فلسطينياً من دون إهمال أو تجاهل لأدوار عربية لها احترامها وتقديرها، فالمسؤولية ستبقى أولاً وأخيراً فلسطينية، والرهان سيبقى دائماً فلسطينياً، ونجاح هذا الرهان هو وحده الكفيل ليس فقط بإنجاح المصالحة وتجديد المشروع الوطني بل وبدعم التيار العروبي داخل الثورات العربية، وهذا وحده طريق مواجهة كل محاولات العبث بفلسطين ومشروعها الوطني . نقلا عن الخليج: