ويل لهذا الإنسان العربي، من عواقب ما تفضي إليه نتائج تشخيص واقعه السياسي المنهار، وما يعانيه – كل يوم – من أهوال خراب البصرة، والفلوجة، والسامراء من الأمصار، ومن اغتصاب القدس وأريحا، وغزة، وباقي الديار. لم يعد – في وطني العربي – من عورة تستر، ولا من مقدس ينصر، فقد تهتكت كل الأستار، واستبيح كل حمى، وكل مزار، وسقطت من أيدي حكامنا، ورعاة أمرنا، سلطة اتخاذ القرار. فأنى أدرتَ وجهك، في خارطة الوطن العربي، وجدت مجتمعا مهيظا مريضا، وشعبا هضيما، كليما، ينزف دما مراقا، ويتجرع ظلما مذاقا.. وتراءت لك في الأفق هشاشة حدوده، وانتكاس أعلامه وبنوده، وانهزامية قواده وجنوده.. هانوا على أنفسهم، وعلى الناس، فسيموا الهوان، والخسف، وتضييق الأنفاس والأحباس.. سبحانك اللهم، مقدر الأقدار، ومقلب الليل والنهار، حوّلت حياتنا إلى ذل بعد عز، فصرنا نحتقر زماننا في جانب الأزمنة الخالية، ونستر عوراتنا بالأسمال البالية، بعد أن أصبنا بمرض فقد الإحساس، وتبلد العقل، وضياع النبراس. وتلك من علامات قيام ساعتنا دون الناس. فقدت كل المفاهيم، دلالاتها ومعانيها في وطننا العربي، فصار الوطن مجرد فضاء رحب تطوّقه الدبابات، وتمرح في بحاره عابرات القارات، ويفسد أمنه، وهدوء وحدته أزيز الطائرات، ويعلي بنيانه إسمنت الجدار العالي لأبنية السجون والمعتقلات . فضمائرنا أصبحت مبطنة بالماديات، وقصورنا صارت ملاهي لقتل الوقت في الملذات والشهوات. إن الوطن عندهم مجرد بقرة حلوب تمثلها هذه البنوك التي يغرفون منها بالمليارات، دون محاسب أو دفاتر حسابات.. فهذه فلسطين؛ الجرح الدامي، والنازف أبدا، تتوالى صرخات استغاثتها، فهي تسام الدون، و تقاسي عذاب الهون، ولا من صلاح الدين أو المأمون، يقف في وجه العلج من بني صهيون. هم اقتحموا علينا غرف نومنا، ولا من رد فعل، وهم كسروا حاجز طوقنا فسَبَوا أحرارنا، وكشفوا عارنا، وقلموا أظفارنا، ولا من غضبة مُضرية أو وثبة عنترية. وواعجبي من ردود أفعالنا، فنحن نتحالف مع أعدائنا، وقتلة أطفالنا ونسائنا، ونزرع الشوك في طريق أحرارنا، ونكشف – للأعداء – ظهور أبطالنا. مرونة مع المحتل، وتصلب مع الفدائي البطل. وهذا العراق، البلد الذي أعيا داؤه الراق – على حد تعبير عالم الجزائر وفقيه الحضارة الإسلامية، محمد البشير الابراهيمي قد ضاع مصيره بين المقاوم، والمساوم، فانهدم بنيانه على أبنائه وأعدائه.. إنه – هو الآخر – ما فتئ يرسل بمشاهد الملهاة، والمأساة سواء عبر هؤلاء الممثلين الجالسين ظلما وعدوانا، على كراسي القضاة، أو عبر الأشلاء المتطايرة من أجساد ضحايا المأساة من العراقيين والعراقيات. فإذا وليت وجهك شطر أرض الجزيرة من وطننا، وهي موقع البيت والزيت، فستجد مآذن التسبيح والتكبير، ومصانع تكرير النفط والتصدير، وهو ما أسال لعاب هذا الأخطبوط العولمي الذي أنزل جيشه في بغدان، ويعد نفسه لإنزال ضربة بطهران، بعد أن ينهي ترتيب قواعده في الظهران، وإحكام قبضته على السودان وهو فاغر فاه على فزان، وفاتح عينيه على وهران، والطنطان. ولا تسأل عن لبنان وأرض الشام، فثمة ترعرع الخصام، واستبدل العداء بالوئام، وسقط الجميع في بحر الخيال من الشعارات والأوهام. أما مصر الكنانة، أرض العبقرية وسماء الألهام، فهي ما تزال قبلة المتشاكسين، وأمل المستضعفين، و ملاذ المؤمنين، ومصدر إلهام الحائرين . وحدّث عن المغرب العربي ولا حرج، فقد أرهص بفتنة العشائرية الأمازيغية، ومحنة سموم الصحراء الغربية، ومطاولته لتنامي الصحوة الإسلامية، والتطلع إلى تنفس المزيد من أوكسجين الحرية . ولذلك جُمّد اتحاده، وخمد حماسه واستعداده، وضعفت طاقته وقل زاده، وكأنه "في سموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم" من نار الخلاف والشقاق والفرقة ومظاهر الافتراق. هذا هو واقعنا العربي؛ هشاشة سياسية في البناء، ومرونة دبلوماسية مع الأعداء، وتشدد قمعي مع الأبناء، وضعف حضاري في الانتماء ... إنه لا أمل يرجى، ما لم يعد وطننا العربي للإنسان بناءه العميق، وللنظام قانونه الدقيق، وللانتماء الحضاري بعده الوثيق.. فيومها – فقط – تستعاد قوته، وتسترد هيبته، وتخشى قولته وصولته. وان التحرير يبدأ بالتغيير ... فهل يتحقق الحلم بعد هذا المخاض العسير ؟