بصدور حكم الإدارية العليا أمس بحل الحزب الوطني الديمقراطي تطوى صفحة كئيبة من صفحات تاريخ الفساد السياسي في مصر ، تاريخ امتلأ بالكآبة والتزوير والجليطة السياسية والاستخفاف بالوطن وأهله والتباهي بالقدرة غير المحدودة على قهر الناس ، لم نكن أمام حزب بالمعايير السياسية التي يعرفها العالم ، وإنما كنا أمام مؤسسة محترفة للبلطجة السياسية والفساد ودعم الاستبداد والتخديم على الفرعون والتعيش على فتات موائده وإيجاد الأطر القانونية والإدارية الشكلية التي تحفظ هيكل ديكوري للديمقراطية أمام العالم . لم يضف الحكم الكثير على صعيد الواقع ، بقدر ما أشاع جوا من الاطمئنان والارتياح لدى قطاع واسع من النشطاء القلقين من "فلول الوطني" ، وأقول أنه لم يضف كثيرا للواقع لأن قناعتي التي قلتها في هذا المكان قبل أسابيع ، أنه لم يكن هناك حزب سياسي حاكم ، وإنما أصحاب مصالح مرتبطة بشخص الفرعون وأسرته ، فلما سقط الفرعون وأسرته انتهى كل شيء ، وانفرط العقد كله ، فكيف وقد أصبح الغالبية العظمى من قيادات الحزب وهياكله القيادية العليا داخل السجون على ذمة تحقيقات الفساد والبلطجة وقتل المتظاهرين ، وعلى كل حال أرجو أن يكون هذا الحكم قد أنهى الوساوس التي شغلت البعض كثيرا ، وأرادوا أن يشغلونا بمسألة أصبحت هامشية ولا قيمة لها على صعيد الواقع . غير أن الحكم الجديد يجعلنا نفتح الحوار الضروري حول مسألة تحاشاها كثيرون بفعل الحرج وعدم الرغبة في استفزاز بعض القوى السياسية القديمة ، إلا أن الأمانة تقتضي منا الصراحة وأن نفتح ملفها إذا كنا جادين في البحث عن نظام سياسي جديد يتميز بالشفافية والتعبير الحقيقي عن الخريطة السياسية المصرية الجديدة ، والمسألة التي أعنيها أن الفساد السياسي الذي عرفته مصر طوال السنوات الماضية ، وخاصة السنوات العشر الأخيرة ، لم يكن رهنا بالحزب الوطني وحده ، وإنما المنظومة السياسية الرسمية بالكامل كانت شريكة في هذا الفساد أو الإفساد السياسي ، ولا يخفى على أي متابع للحالة السياسية أن الغالبية العظمى من الأحزاب التي كانت تصنف على أنها "معارضة" كانت في الحقيقة تمارس نوعا من الخداع والتضليل السياسي للرأي العام ، على الأقل على صعيد قياداتها ، وكانت تخدم على "صورة" الحزب الوطني وتلعب مع رموزه وتنسق الأدوار معهم , وتحاول أن تضفي مشروعية على النظام الحاكم الفاسد ، وكانت قيادات هذه الأحزاب لهذا المعنى وتلك الخدمات تحظى برعاية كاملة من الرئيس مبارك وحاشيته ، وجميع رؤساء هذه الأحزاب إلا نادرا كان يتم الإنعام عليها بعضوية مجلس الشورى بصفة مستمرة بقرار من رئيس الجمهورية مع مخصصات مالية ، ودعم لصحف أحزابها لكي تستمر في اللعبة ، إضافة إلى تدني بعضها إلى مستوى التنسيق مع الجهاز الأمني ، وكان صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطني الحاكم يقوم بعمل حماية صارمة لقيادات تلك الأحزاب من غضب بعض قواعدهم الشريفة التي يزعجها هذا "العار" السياسي الذي يحدث ، كما كان يتم تسريب عدة ملايين من الجنيهات سنويا إلى خزينة الحزب "المعارض" التابعة لرئيسه من خلال إعلانات حكومية سخية في صحيفته التي لا يقرأه أحد غالبا وبحيث يدرك الجميع أن وجود الحزب مرتهن بوجود هذه القيادة التي هي مرتهنة بوجود منظومة الفساد السياسي التي يقودها الحزب الحاكم . هذه المنظومة الفاسدة والمنتنة ، لماذا تبقى بعد أن أوقفنا العمل بالدستور وقمنا بحل مجلس الشعب ومجلس الشورى وحل الحكومة وتغيير النظام السياسي كله ، أليست هي جزءا من هذا النظام السياسي القديم ، لماذا لا يصدر قرار بحل الأحزاب أيضا ، ثم تمنح القوى السياسية الوطنية بما فيها الذين كانوا ينتمون إلى الأحزاب القديمة حقها الكامل في التقدم بأحزاب جديدة تعبر عن الخريطة السياسية بشكل صحيح ونزيه وحر ، لم يكن حزب التجمع يعبر عن القطاع الأوسع من اليسار المصري ، ولم يكن الحزب الناصري يعبر عن التيار الأوسع من الحركة الناصرية ، ولم يكن حزب الوفد يعبر عن التيار الليبرالي ، ولا داعي لذكر ما تبقى لأنه مضيعة للوقت ونفخ في رماد ، وبالتالي فبقاء مثل هذه الأحزاب بصيغتها القديمة لا معنى له ، كما أنها بصريح العبارة جزء من منظومة فساد عصر مبارك التي تجاوزها الزمن . [email protected]