صفقت طويلاً الشعوب العربية ورفعت القبعات للموقف التركي المؤيد والمناصر لانتفاضة شعبي تونس ومصر، وارتاحت أكثر وهي ترى الرئيس التركي عبد الله غول يحث المجلس العسكري المصري على نقل السلطات إلى حكومة مدنية منتخبة وبسرعة، ومن قبل كان موقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس الكيان الصهيوني شيمون بيرز في دافوس مثار إعجاب الشارع العربي، موقف ذكر الجميع بموقف السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى الذي عارض بيع فلسطين لهيرتزل، واستمر الموقف التركي المميز تجاه القضايا العربية بسياسة واضحة إبان العدوان الصهيوني على غزة، وقافلة الحرية أيضاً، كل ذلك أسس إلى أنموذج تركي صاعد تحلم به المنطقة العربية، ومن ثم فالمنطقة التي حكمت بالاستبداد بعد رحيل العثمانيين عنها، تعود حرة ومستقلة عن الاستبداد الداخلي وعلى يد العثمانيين الجدد. الكل في المنطقة العربية هذه الأيام يتطلع إلى النموذج التركي خصوصاً بعد الموقف الأردوغاني الرائع بالاصطفاف إلى جانب الانتفاضات العربية في كل من تونس ومصر، وهو ما سيؤسس إلى عالم عربي وإسلامي خالٍ من الاستبداد والاستعباد والديكتاتورية، يستتبعه لمعان أكثر وأقوى وأبهر للنموذج التركي واكتسابه أراضي جديدة وشعوباً أخرى. غير أن الموقف التركي الغامض والواقف أحياناً إلى جانب النظامين المستبدين في كل من ليبيا وسورية أثار مخاوف جدية لدى بعض النخب العربية والتركية، وأيضاً لدى الشرائح الشعبية العادية، من أن يفقد النموذج التركي ألقه ويقتات على رصيده الذي بناه لدى الشعوب العربية بشق الأنفس بعد عقود من المرارات بين الأتراك والعرب ليس محل ذكرها الآن، وإن كان الكثير منها ليس صحيحاً بنظري المتواضع. لكن ذلك بكل تأكيد سيقود إلى تراجع الألق والإشعاع للنموذج التركي الديمقراطي الإسلامي الحداثي لمراهنته على براغماتية سياسية مع أنظمة شمولية استبدادية لا همَّ لها إلا خدش النموذج التركي الجميل، فالخطوط المعوجة من أمثال خطوط النظامين الليبي والسوري لا يمكن أن تتحمل وجود خط مستقيم شديد الإنارة معه كونه سيكشف عوارها وزيفها، ولذا فهي تعمل ما وسعها الوسع أن تُحيده عن جادته، وتُفقده جاذبيته، ومن ثم فالنموذج المرفوض قلباً وقالباً من النظامين المستبدين سيكون مآله: "لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"، بمعنى أنه لن يفلح في عملية التحول الديمقراطي، ولن يبقي ظهر الشعوب العربية داعمة له ومقتنعة بمشروعه وأنموذجه .. لعل هذا ما أثار الشيخين الجليلين العلامة يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة، وأثار معه حجم الإحباط الليبي والسوري، وهو خطابات رجب طيب أردوغان وتصريحاته وسياساته بشأن ليبيا، ووقوفه في منتصف الطريق بين الثوار ونظام القذافي. أما في سورية فالقضية أشد تعقيداً بسبب العلاقات العاطفية وصلات القرابة والجغرافيا وغيرهما بين البلدين، فالمشكلة في سورية ليست مشكلة وعود من النظام السوري بقدر ما هي أزمة ثقة راكمتها وعود كاذبة طوال عقود بداية بعهد الأب ثم الابن، وعززها تقافز النظام السوري من خندق ما وصفه ب "مقاومة الإمبريالية والرجعية" إلى الانضمام إليها في الحرب على العراق، ثم التحالف مع الدول الخليجية والاعتماد عليها مالياً ونحوه، ثم الانقلاب عليها والانضمام إلى إيران، والآن التحالف مع تركيا، في حين أن الشعب السوري مقتنع تماماً أن هذا الحلف مع تركيا آنيٌّ ووقتي وسيُفك في اللحظة التي يرى النظام أنه استنفذ أغراضه. تركيا التي عودتنا على المراهنة على الشعوب العربية نفسها وليس على الأنظمة تجلى ذلك بدعمها لانتفاضة مصر ومطالبة مبارك بالتنحي، انتصاراً لثورة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، على الرغم من وجود استثمارات تركية ضحمة هناك، ومخاوف من أن تتضرر إن لم يرحل مبارك، هذا النموذج التركي القيادي الرائع يقع تحت النار وتحت الاختبار اليوم بسبب دعمه ومساندته للنموذجين الاستبداديين في ليبيا وسورية المحكومتين من عائلتين أو من شخص واحد منذ أربعة عقود كاملة، وهذا الاصطفاف التركي لا يشرف تركيا وحزب العدالة، كما لا يساعده على تقديم نفسه كبديل في المنطقة، فضلاً عن أنه سيؤثر على شعبيته داخل تركيا وخارجها .. حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا لا يقدر أن يقامر بمصيره وبنموذجه الذي غدا مثالاً يُحتذى، وليس بمقدوره أن يراهن على أنظمة شمولية استبدادية متعفنة ملفوظة شعبياً، وقد أثبتت أنها عصية على التغيير وعلى الاعتدال، وعلى قبول الآخر، فتركيبتها البنيوية وجيناتها وحمضها النووي يتنافى تماماً مع قبول الآخر ومع تداول السلطة وحرية الإعلام، والدليل أمامنا، ففي الوقت الذي كانت فيه بثينية شعبان المستشارة السياسية والإعلامية للرئيس السوري تتعهد بعدم إطلاق النار على المحتجين وأن الرئيس الأسد قد أصدر أوامره بعدم إطلاق النار رأينا كيف سقط عشرات الشهداء بفعل قوات الأمن السورية، ورأينا كيف تكثفت الاعتقالات، ورأينا الإصرار على تعيين رئيس وزراء من خلفية بعثية، ورأينا تعامل وسائل الإعلام الحكومية مع الحدث السوري، ورأينا رأس السلطة بشار الأسد كيف جمع الدمى أو الكومبارس حوله في مجلس الشعب وكيف أقاموا له سوق عكاظ وهو يضحك، وكأنه لم يسقط أكثر من مائة وثلاثة وسبعين شهيداً ومئات الجرحى والمعتقلين.. الرهان التركي الحقيقي ينبغي أن يكون على الشعوب، التي قد تُهزم في معركة، ولكنها لن تخسر الحرب، ومن السخف تطبيق النموذج التركي في دول تحكمها مافيات عائلية وأسرية مثل ليبيا وسورية، والتعويل على نجاح بذر التفاح في أراض قاحلة صحراوية، لا سيما وهي التي تفتقر إلى أبسط بُنى الدولة الحديثة مقارنة بتركيا، فالزعيم الليبي هو ملك ملوك أفريقيا في ليبيا، أما في سورية فالكومبارس يخاطبونه بالقول: "إن سورية صغيرة عليك ولا بد لك أن تقود العالم كله"، ذاك كله يُنقل على الهواء مباشرة، فهل يُطبق النموذج التركي على دول تُدار بعقليات كهذه؟! .. ما أعتقده اليوم هو أن النموذج التركي وقادته ينبغي عليهم الإصغاء والجلوس مع رموز الشعبين السوري والليبي، ليستمعوا إلى وجهة نظريهما تجاه حكامهما، ويطلعوا على الانشغالات الحقيقية التي تشغل بالهما، لاستكشاف إمكانية الالتقاء بين المعارضة والحكم، إن كان ثمة نقاط التقاء وإن لم تكن الشعوب قد لفظتهما تماماً، فإذا كان القاضي التركي يود أن يكون قاضيا فعليه أن يستمع إلى وجهتي النظر، هذا إن لم ينحَزْ إلى الشعوب الباقية، أما أن يركن إلى وجهة نظر الحكم بحجة السيادة الوطنية ونحوها من الكليشيهات المعروفة، فليستعد النموذج التركي إلى أن يدفن في رمال ليبيا وشواطئ المتوسط، فقد اصطف في خانة الاستبدادين السوري والليبي، وليس في خانة المستضعفين أو في خانة الوسطاء النزيهين على الأقل.