لا يختلف متابعان للشأن السياسي الحركي الإسلامي أن أكبر ضغوط سياسية وفكرية داخلية وخارجية محلية وإقليمية وعالمية تتحملها حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين، مما يدفع بعض ذوي العلاقة المباشرة أو غير المباشرة لتقديم النصح الصادق للحركة، أو الإسهام بقصد أو بغير قصد في مزيد من الضغوط والابتزاز والخذلان استنادا إلى صعوبة الموقف وتعقّد إمكانات الحل . يلفت النظر حجم تلك التحدّيات من مختلف الأطراف على حين تتعامل الحركة معها – حتى الآن- ببراعة مذهلة، فليس ثمة تنازل حقيقي عن ثوابتها، وليس ثمّة تصلّب في غير موطنه. أيّا ما أراد المراقب للشأن الإسلامي والفلسطيني منه –بوجه أخص- أن يقارن حالات مماثلة تعرضت فيها حركات إسلامية لمثل تلك التحدّيات فإنه سيجد خصوصية للحالة الفلسطينية تجعل من العسير عقد مقارنة مشابهة . ما يجدر الوقوف عنده في هذه العجالة هو مفردات الخطاب الإسلامي الفلسطيني لحركة حماس، حيث يصعب تفسيره بغير مقومات البناء التربوي الإسلامي ذي التنشئة الإخوانية الأصيلة ، التي استطاعت في عهد مرشدها الراحل الإمام البنا أن تقيم توازنا لافتا بين جوانب الشخصية الفردية من جهة وبين المطالب الاجتماعية على أوسع نطاق للفرد المسلم من جهة أخرى، على نحو من الانضباط والتكامل، ودون الوقوع في ثنائية الإفراط أو التفريط، على نحو ما بات يلاحظ في أفراد على مستويات متفاوتة في بعض فصائل الحركة الإسلامية ذي المرجعية الإسلامية (الإخوانية) في الأساس في غير ما قطر . قيل لحركة حماس إن المجتمع الدولي يقف منكم موقفا موحّدا تجاه قطع المعونات المخصصة، بسبب تصلبكم في عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني ،ورفض القبول بجميع الاتفاقيات السابقة التي وقعتها السلطة الفلسطينية فماذا أنتم فاعلون؟! وبدأت بالفعل سياسة التجويع والحصار من غزّة ، حيث نفد مخزون الغذاء اليومي من الخبز ، لا بسبب إغلاق المعابر على نحو ماكان سائدا في مرحلة السلطة السابقة، بل بصرامة غير معهودة على ذلك النحو، يراد من خلالها إرسال أولى الرسائل القاسية للسلطة الجديدة وناخبيها من أبناء الشعب الفلسطيني كأسلوب عقاب جماعي، من شأنه أن يدفع الحركة إلى مراجعة مواقفها تجاه إسرائيل ومَن وراء إسرائيل. لكن هل غيّر ذلك شيئا من سياسة قادة حماس ممثلة في رموزها : مشعل وهنيه والزهار وأبو زهري والمصري وأمثالهم؟ لم يدفعهم ذلك لردة فعل عنترية جامحة فيعلنون –مثلا- موقف الحرب أو المقاطعة للعالم الخارجي، وإعلان التبرؤ من حلفائهم في الداخل الفلسطيني، ومن يساندهم إقليميا ، بل مضوا في طريق إعلان الحرص على إقامة علاقات خارجية ندّية، واستعدادهم للحوار غير المشروط مع أي دولة في العالم باستثناء الكيان الغاصب. كما لم يغيّر ذلك من مواصلة إعلان حرصهم على تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولم يدفعهم ذلك كذلك إلى رفع الأيادي والاستسلام ، نزولا عند الأمر الواقع، ولو أرادوا فلن يعدموا تبريرات وتخريجات سياسية وحتى ( شرعية) ممن دأبوا على الإعداد لكل موقف تخريجا ،وأن يلبسوا لكل وضع جديد لبوسه المناسبة. جوابهم جميعا بلسان المقال حينا والحال حينا أخرى : الله خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم وهو وحده المتصرف المطلق في هذا الوجود، و مضوا في مشروعهم الحضاري . جواب يبدو غير دبلوماسي بل غيبي إيماني، لكن هل يُستغرب أن يصدر ذلك عن حركة مجاهدة بحجم حماس ؟ الواقع أن الإجابة مُخرج طبيعي لتربية ملؤها الإيمان واليقين بحتمية النصر للمؤمنين المجاهدين المستضعفين على قوى الطغيان والظلام والإرهاب وحلفائهم . الغريب أن يتبرّع بعض من يزعم صلة بالخطاب الإسلامي لاعتبار ذلك الموقف والرد غير ملائم ، إذ لا دبلوماسية فيه ولا براجماتية ولا واقعية .وبالله إذا جرّدنا حركة إسلامية من خطاب كهذا الذي تتبناه حماس فماذا بقي لها كي توصف بالإسلامية . وأنا أعني هنا الفلسفة الكلية للخطاب الإسلامي المستند على ثوابت الإيمان بنصر الله الحتمي مادام أبناؤه يسيرون على طريق الله المستقيم، اتكالا يقينيا على رب العالمين، ونهجا سببيا على الأرض يؤكّد الاتكال لا التواكل. التحدّيات التي تواجه حركة حماس على أكثر من صعيد ثم لاتنفك عن ثباتها وتوازنها في آن معادلة صعبة على بعض الحركات ذات المرجعية الإخوانية –قبل غيرها – حيث لم يعد بإمكان المراقب أحيانا قدرة على تمييز الخطاب السياسي لبعضها عن أي حركة أو اتجاه وطني ( خالص) ولا أريد أن أتطرف لأقول ( علماني ) أو أقرب إليه. وأيا ماقيل عن الخصوصية فليس ثمة خصوصية أكثر شفاعة للتنازل والتراجع- إن صح التعبير- من خصوصية حماس ، لكن المفارقة أن ذلك لم يحصل لدى حماس ، وإنما يحدث – مع الأسف- باطّراد لحركات أخرى تحظى بامتيازات تنازعها عليها اتجاهات غير إسلامية. وأيّا ً كانت الظروف والضغوط في هذا القطر أو ذاك فليس ثمة ما يسوّغ تخلي الخطاب الإسلامي عن مرجعيته الأصيلة ومفرداته الخاصة ، لصالح أي خطاب آخر ذي مرجعية مباينة قليلا أو كثيرا ، مع إمكان الالتقاء على القواسم المشتركة بطبيعة الحال . [email protected]