سئل أحدهم في برنامج حواري بعد ثلاث ساعات تقريبًا من إعلان نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية: هل كنت تتوقع هذه النتيجة؟ قال: لا، سأله: لماذا؟ أجاب: كنت أعتقد أن الأكثرية لمن يقول "لا"، أو أن الطرفين متكافئان على أقل تقدير. فاجأه بالقول: ألم تكن هذه أكثرية استديوهات وبرامج حوارية؟! هذا السؤال الأخير يلخص في رأيي الدرس الأهم من دلالات نتيجة الاستفتاء؛ فبعض المثقفين والمذيعين والمذيعات لأنهم يملكون الصوت الأعلى والمنابر الإعلامية يعتقد أن رأيه هو رأي الأغلبية، ويمارس دورًا سلطويًّا، يعكس في الحقيقة وجهًا آخر للدكتاتورية يمكن أن أسميه "الديكتاتورية الناعمة"! صحيح كما قال هذا الفريق - فريق عدم الموافقة- إن النتيجة لا تعكس الوزن الدقيق للتيار الإسلامي؛ إذ هناك نسبة ما ممن قال نعم ليسوا من الإسلاميين. وصحيح أن بين الإسلاميين تمايزات كثيرة ستظهر لاحقًا في الانتخابات التشريعية مما سيفتت كتلتهم التصويتية التي رجَّحت الاستفتاء. وصحيح أن بعض من قال نعم لم يكن لديه إلمام كافٍ بمضمون التعديلات بل ذهب مثلاً بدافع من الرغبة فيما يظنه استقرارًا، بغض النظر عن التفصيلات.. كل هذا صحيح وأكثر! لكن من قال إن من صوَّت ب "لا" يحتكر الحقيقة؟! وأن من حقه الحديث باسم الثورة وباسم دماء الشهداء؟! ومن قال إن الشعب المصري يمثله الشخص أو الاثنان أو الثلاثة أو العشرة الذين يظهرون كل ليلة في البرامج الحوارية ولا يملُّون من تكرار رأيهم، ويظنون أنهم وحدهم يفهمون أكثر، وثوريون أكثر، ودعاة تغيير حقيقي؟! أليس من حق الشعب بملايينه أن يعبر عن نفسه؟! وإذا كانوا قد فشلوا في إقناع الشعب برأيهم، فما المطلوب؟! هل المطلوب أن يصوتوا هم بدلاً عن الشعب لأنهم أدرى بمصلحته؟! أليس هذا ما كان يفعله الحزب الوطني ومبارك دون أن يعلنا عن ذلك صراحة؟! بعد الاستفتاء تأكد لي ما كنت أعرفه سابقًا من أن هناك فريقًا في الساحة المصرية على استعداد لأن تهمك بالجهل، أو عدم الثقافة بشكل كافٍ، أو الانصياع وراء العواطف، أو السذاجة وسهولة الانخداع من الآخرين، أو غير ذلك من التهم "المعلبة"... إذا أنت لم توافقه على رأيه!! هم يؤمنون بالديمقراطية إذا أيدتْ خياراتهم، ويلعنونها - عمليًّا- إذا كشفت حجمهم الحقيقي! مشكلتهم أنهم يعتقدون أنهم أكثرية، بينما هم أكثرية افتراضية! يظنون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، في حين أنهم يعرفون جانبًا منها فقط! يعرضون أجندة للحوار فإذا عرضت أجندة مغايرة لها ولو في بعض النقاط، اتهموك بأنك ترفض الحوار أصلاً! أحد رؤساء أحزاب المعارضة، وبالمناسبة هو عضو سابق في مجلس الشورى بالتعيين، وهذه أولاً فضيحة لو يعلم! إذ كيف يرضى بأن يُعيَّن في مجلس نيابي من الحزب الوطني ويفترض أنهما متنافسان، ولا يرضى بأن ينزل في الانتخابات ويظهر للجميع شعبيته وجماهيريته؟! المهم خرج علينا هذا (الرئيس) بعد إعلان نتيجة الاستفتاء مباشرة ليحدثنا باستفاضة ممجوجة عن تلك اللجنة التي في أقاصي الصعيد ولم تفتح أبوابها إلا في الساعة الخامسة مساءً على حد زعمه!! وبافتراض أن هذا صحيح - مع العلم أن سبق ثبوتُ كذبه وتزويره للتاريخ!- هل هذا ردٌّ ذو منطق متماسك في التعليق على نتيجةٍ الفرق فيها أكثر من ثلثين إلى ثلث؟! وهل لي أن أسأل هذا (الرئيس): كم عدد الأصوات التي حصل عليها حزبك في أية انتخابات سابقة؟! وهل يمكن لحزب - مع التجاوز في استخدام كلمة "حزب" هنا!- فشل في أن يكون له خمسة أعضاء على الأقل في البرلمان، أن يتحدث عن خيارات واتجاهات ومواقف؟! وباسم من يصدر بياناته تلك التي لا ينافسها في الكثرة إلا عددُ الأوراق المتساقطة من رياح الخريف؟! أنصحهم بأنهم يراجعوا المادة الأساسية التي اتفقت عليها كل الدساتير: "الشعب مصدر السلطات"، وإذا كنا معهم في رفض الوصاية على آراء الناس باسم الدين، فإننا نحذرهم من الوقوع في الخطأ ذاته، حين يمارسون الوصاية باسم الثورة وامتلاك الحقيقة! الثورة ملك الشعب.. والحقيقة ملك الجميع.. وصندوق الاقتراع وحده هو الذي يكشف الأكثرية الحقيقية وتلك الافتراضية المتوهمة!