قضيت ثلاثة أيام خارج مصر ، وعدت أمس الجمعة من أجل أن ألحق بالاستفتاء ، ليس لمجرد أن أعطي صوتي وحسب ، فهذا لن يغير الأمر كثيرا وإن كان واجبا وطنيا ، وإنما كنت حريصا على أن أشارك في "عيد" الديمقراطية الجديد ، أريد أن أرى وجوه المصريين وهي مفعمة بالتحدي والثقة والإصرار على المشاركة ، أريد أن أرى آلاف المواطنين وهم يذهبون إلى صناديق الاستفتاء دون خوف من بلطجية أو أمن دولة أو أمن مركزي أو عصابات حزب حاكم ، أريد أن أرى الناس ذاهبة إلى صناديق الاستفتاء كما لو كانت في يوم عيد ونزهة وطنية جميلة ، تصطحب فيها الأسرة صغارها وكبارها ، من سيصوت ومن سوف يتدرب على هذا المشهد الذي يترسخ في ذاكرته صغيرا ليكون ملهما له عندما ينضج . تركت المصريين في خارج البلد وهم يتساءلون ويتسامرون عن الاستفتاء ، أنت مع نعم أم مع لا ؟ ، تشعر أن كل مصري يتصرف وكأن اختياره هو وصوته هو سيكون حاسما في النتيجة ، هو ليس صوت فرد وإنما يشعر أنه اختيار شعب ، وعلى الطائرة كانت حوارات المسافرين الجانبية ، وفي التاكسي أثناء عودتي من المطار كان شبان يوزعون بطاقات دعاية تدعو الناس للتصويت برأي محدد ويستغلون إشارات المرور وأماكن الزحام ليسلموا الأوراق للسائقين والركاب ، في الجلسات العائلية ترى الحديث والجدل حول الاستفتاء يستقطع الجزء الأكبر من الحوار وجلسات السمر ، وكثيرا ما تلاحظ أن رأي المنزل الواحد منقسم بين نعم ولا ، وقد لاحظت هذا الأمر أيضا مع أصدقاء ميدان التحرير ورفقة المحنة والصبر والمعاناة ، بعضهم اختار بحماس أن يقول لا ، وبعضهم اختار بنفس الحماس أن يقول نعم ، هذا مشهد غير مسبوق في تاريخ مصر. المصريون في الخارج معارضون بالفطرة ، ربما لأن مسافة البعد عن الوطن كانت تجعلهم يرون حجم الظلم والهمجية والتخلف التي يعمل بها النظام السابق عارية مكشوفة ، خاصة عندما يقارنون ذلك تلقائيا بما يعيشونه في الخارج من طفرات مادية أو تقنية أو حضارية أو ديمقراطية ، حسب البلد الذي يعيشون فيه ، فيدركون حجم الفارق رغم الدعايات الفجة للنظم المتخلفة ، غير أني لاحظت أن المصريين في الخارج أيضا الآن يكونون أكثر تأثرا بما يدور في الفضائيات ، لأن مساحات التماس المباشر بينهم وبين الوطن ونبضه وناسه ومنتدياته ضعيفة وتبقى الفضائيات والمواقع الالكترونية النوافذ الأكثر إلحاحا على وعي المغتربين والأكثر تأثيرا بالتالي في تشكيل موقفهم السياسي . هذا الزخم السياسي غير المسبوق في تاريخ مصر الحديث هو أعظم إنجازات ثورة 25 يناير ، كما أن هذا الوعي المتطور والمتوهج والمفعم حماسة وإصرارا على تغيير وجه الوطن هو الضمانة الأكيدة لنجاح الثورة وتحقيق أهدافها بإذن الله ، وسواء جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم أو بلا ، فإن مصر ستكون قادرة إلى إصلاح مساراتها دائما ، بفضل هذه الروح الجديدة ، الدساتير ليست هي صانعة الإنجاز أو الإصلاح ، وإنما هي حاضنته للمستقبل والمسجلة لملامحه ومعالمه ، فاللغة نطقها الإنسان أولا قبل أن يسجلها كتابة ، وكذلك الدساتير ، وهناك دول عريقة في الديمقراطية لا تملك دستورا مكتوبا ، ومع ذلك هي تملك أعظم الديمقراطيات التي عرفها العالم الحديث ، والدستور عندما يفتقر إلى الزخم الشعبي المتوهج والإرادة الصارمة التي تحميه سيكون مجرد حبر على ورق ، مهما كانت روعة نصوصه . كل يوم تعزز الثورة مكتسباتها ، وكل يوم يترسخ الإيمان بها في ممارسات الناس وهمومهم ، وأتصور أن مصر فازت فعلا في سباق الاستفتاء الدستوري ، بغض النظر عن نتيجته ، وسوف نهنئي أنفسنا جميعا بالنتيجة أيا كانت ، وسنواصل مسيرة الإصلاح ، فقط لا ينبغي أن نفقد الثقة لحظة واحدة في قدرتنا على صناعة وطن أجمل ، ولا ينبغي أن نمارس من السلوكيات أو التشنجات ما يسيء إلى المشهد الحضاري الجميل والرائع للشعب المصري في ثورته ، وهو المشهد الذي قال أكثر من زعيم عالمي بأنه "كان ملهما للبشرية" [email protected]