طرحت في المقال السابق بعض تحديات خروج جموع الإخوان الى العمل المجتمعي العام, وهذا الأمر ليس هيناً (على كثيرٍ منهم)لأنه يمثل تحولا نفسيا كبيرا,بعد أن كان التنظيم كالسمك (غاطسا تحت الماء, مُضطرا لا مُختارا), وتطرق الحديث عن الحزب الجاري تأسيسه, وقدمت اقتراحا (للنقاش) ملخصه أن يتميز الإخوان عن غيرهم فيقدمون نموذجا لإدارة دولة لا حزب, يُعظم القواسم الوطنية المشتركة كالحرية والتقدم والعدالة, وهذا يراه كثير من المصريين (واجب الوقت), وحينما تنعم مصر بالحرية (بتعاون جميع الشرفاء) يكون الناس أكثر استعدادا لقبول شريعة الإسلام ( ولعل هذا جوهر ما نادى به العلامة القرضاوي حين قال: تحقيق الحرية مُقدَّم على تطبيق الشريعة), وإذا كانت أنظار العالم ترنو الى مواقف الإخوان, فلعل ذلك يعقد صلحا تاريخيا بين دعاة الإسلام السياسي والمتوجسين حول مشروعهم, واقترحت أن يكون الحزب منفصلا فنيا وإداريا وماليا عن الجماعة, لتبقى فقط روابط الفكر المشترك, ولعلنا في هذا المقال ننتقل الى الحديث عن مستقبل الجماعة (التي أحسبها لن تكون كما مضت) والتي هي (بوظائفها) أهم ألف مرة من الحزب, وقد أشار البطل المُحرَر المهندس خيرت الشاطر في حواره في برنامج العاشرة مساءً إلى أهمية النظر في اللوائح والمناهج والوسائل لتتناسب مع طبيعة العمل العلني. ما بين البناء والهدم كان مشروع (جُل) الحركات الإسلامية هدم الأنظمة الفاسدة, كما أوضح صاحب الظلال رحمه الله: (إزالة الطواغيت التي تعوق نشر الحق والعدل, فإذا زالت هذه الطواغيت, يكون الخيار للناس,كما قال الله تعالى :"فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"), ولذلك كانت الحركة الإسلامية تعرف (مالاتريد), وانتقل بها الحال الآن الى أهمية أن تعرف وتصيغ وتقرر(ما تريد), بمعنى الانتقال من (الهدم) الى (البناء), ورحم الله الشيخ الجليل متولي الشعراوي,إذ قال كلمات من نور: آفة الثائر أن يظل ثائرا, والثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد, ثم يهدأ, ليبني الأمجاد, وأحسب أن الإخوان الآن بعد أن ساهموا أعظم مساهمة في هذه الثورة المباركة بحاجة الى (هدوء) لإلتقاط الأنفاس, لصياغة طريق بناء أمجاد الوطن ثم الأمة, حيث أن ( خطط ومناهج ورجال ووسائل الهدم ليست بالضرورة هي خطط ومناهج ورجال ووسائل البناء), ولعل المعنى الهام الذي طرحه رئيس حزب الوفد الدكتور السيد البدوي (مع التحفظ البالغ على كثير من مواقفه) من طرح الثقة على رئاسته للحزب, باعتبار أن جمعية الوفد العمومية التي أختارته رئيسا ( قبل الثورة بكل معطياتها) , قد لاتراه مناسبا أن يكون رئيسا للوفد (بعد الثورة بكل معطياتها )؟ هو أمرجدير بالاعتبار. عودة للمراجعة لقد طرح كثيرون فكرة المراجعة لبعض المسائل, ولعل إطلالة سريعة لما يمكن مراجعته ليتواكب مع مرحلة العلانية مايلي: 1/ لقب المرشد ومكتب الإرشاد : إن الجماعة بحاجة لحسم أي جدل قد ينشأ في ظروف قادمة حول قانونية عملها, مما يجعلها بحاجة للتقدم بطلب تجديد إشهار الجماعة قانونيا, ولعل ذلك يجعل تبعيتها لوزارة الشئون الإجتماعية, وهنا قد يصبح المسئول الأول عن الجماعة رئيسا لها, ويتحول مُسمى مكتب الإرشاد الى مجلس الإدارة,ليقتصر وصف المرشد على الإمام حسن البنا (رحمه الله) لأنه كان مرشدا ومجددا وملهما ومؤسسا وصاحب مشروع, وأحسب أن كل من أتي بعده قد سار على نهجه, ومن ثم يكون مديرا تنفيذيا أو رئيسا للجماعة لا مُرشدا لها .. 2/ التخلي عن المسميات والشعارات المعسكرة, فالعمل المدني العلني في وسائله الدعوية والتربوية قد يقبل بأسم اللقاء الإيماني بديلا عن الكتيبة, والمصيف بديلا عن المعسكر,والحوار والتفاهم بديلا عن السمع والطاعة,والالتزام بديلا عن الجندية, وقد تقبل القوات المسلحة أن يكون شعارها في ثكناتها ( كتاب وسيفان تحتهما كلمة وأعدوا), لأنها المؤسسة المعنية برفع السيوف, متمنيا أن يكون الشعار حاويا على صورة كتاب ( بالمُطلق), حيث يراه المسلم مصحفا لأنه أعظم كتاب لديه, بينما يراه غير المسلم كتابه الذي يؤمن به, في اتساع لرمزيته, أما شعار الجماعة المقترح فأحسبه يحتوي على لفظة ( وتعاونوا) تحت المصحف الشريف, وفوقه آية محاطة بأغصان زيتون, تعبيرا عن التعاون والسلمية. 3/ شعار الإسلام هو الحل: شعار جامع لكل الإسلاميين, وعلى الجماعة التمسك به, وأجمل ما يكون في مرحلة فصل الحزب عن الجماعة, أن الشعار لم يعد مطروحا للعمل الحزبي التنافسي, فربما يشعر المرء بغصة في حلقه حين يُطرح على الناس سؤال مفاده ( هل تقبل بالإسلام حلا؟) فتأتي النتائج بنسبة 20% فقط القابلة بذلك,وهذا لا يعكس الحجم الحقيقي لإيمان الناس بدينهم,فأكثريتهم لا يدخلون معترك الحياة السياسية, ولذلك, حين لا تمارس الجماعة العمل الحزبي وتطرح شعارها الجامع الجميل, فلعل ذلك يجمع أكثرية المسلمين حوله, ومن أراد أن يكون لهذا الشعار تطبيقات على الأرض (في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي ) فتكون ثمة مؤسسات وأوعية حاضنة لهذه التطبيقات. 4/ خريجو الجماعة: حين تتخفف الجماعة من ضغوط إدارتها لكثير من الأنشطة فقد يساهم ذلك في تجويد العمل وتطويره, فاستقلال النشاط الحزبي يسهل أمامها القيام ببقية المهام الجليلة, بل إن خروج نشاط البر في عمل مستقل كمؤسسة "رسالة" وغيرها, قد يؤدي الى زيادة التبرعات ومن ثم اتساع الأنشطة ليشمل انشاء المدارس والمستشفيات والأنشطة الاجتماعية الخدمية مع اعمال الخير والإحسان, وأحسب أن (إخراج) الجماعة (كل فترة) مؤسسة ما, تنطلق في المجتمع, سيكون بمثابة بذر الخير ونثره في البلاد ليعم نفعه, كما أنه سيساهم في نضوج واتساع هذه المؤسسات, وإذا حادت مؤسسة ما عن أهدافها الأصيلة, فإنه لا يحق لأحد اتهام الجماعة لأنها مستقلة عن تلك المؤسسة, وهنا تساهم الجماعة من جديد (وفق سنة التدافع) بخروج فصيل أخر لعمل مؤسسة أخرى, وكأن الجماعة قد أصبحت كالجامعة التي تتكون من عدة كليات, تستقبل الطلاب ليتلقون قدرا معتبرا من التربية والتثقيف مع قيم الذاتية والايجابية ونبل العمل التطوعي, ثم يتخرجون وقد أطمأنت الجامعة على حسن أدائهم لوظائفهم في مجتمعاتهم لتحقيق أهدافها السامية,وهنا يمكن استحضار فكرة الصاروخ حين انطلاقه متحررا من قاعدته, ثم تتحرر اجزاء أخرى منه حتي يسهل خروجه من مدار الأرض, ثم ينفصل جزء ثالث منه بعد ذلك حتى يستطيع أن ينطلق في الفضاء. التعاون البناء المثمر إن بعض الناس يكنزون الذهب والفضة, وأخرون ينفقونها في سبيل الله,وثمة فارق كبير بين تنظيم يكتنز خيراته, وأخر يُطلقه لخير الناس جميعهم, فإطلاق الجماعة لمؤسسات (سياسية وخيرية واجتماعية) في المجتمع سيدفع الى توسيع دائرة التعاون في المجال الدعوي, ثم التعاون في المجال السياسي, وكذلك في مجال البر والخدمات, باستقلال وتوالد مستمر ينتشر في المجتمع, ولعل هذا يؤدي الى خروج الجماعة من (ضيق) التنظيم الى (رحابة) المجتمع, ومن تحت الماء الى فوقه, بما يسمح بتعاون أكبر وأشمل, وأحسب أن الجماعة حين تفعل ذلك فإنها كمن ينشر عطرها ليتعطر به المجتمع بأسره, ولعل هذا يؤدي الى أقصى ما كان يبتغيه الإمام البنا للإسلام أن يكون (روح تسري في هذه الأمة). المحافظة على وسطية الإسلام إن الجماعة بتعاونها في محيطها الإسلامي الدعوي مع الكيانات الدعوية المختلفة كالأزهر والجمعية الشرعية وانصار السنة ودعاة السلفية المعتدلين وغيرهم, من شأنه أن يحقق جبهة إسلامية مؤثرة, تساهم في ترسيخ وتعميق مفهوم وروح الإسلام السني الوسطي المعتدل, لينحصر دعاة الغلو والتشدد والتطرف في أضيق نطاق, وخاصة بعد أن رأينا دول ومؤسسات ترعى وتدعم التدين الشكلي المخاصم للمجتمع, الساكت عن الظلم والمتحالف مع الاستبداد, حين تم ترويج فتاوي عدم جواز الخروج على الحاكم, وتحريم المظاهرات والتنظيمات السلمية,الى درجة أن خرج أحدهم يوما ساخرا من حماس وصواريخها حين كانت غزة تتعرض لأبشع عدوان صهيوني. جماعات الضغط يلجأ كثير من الساسة الى جماعات الضغط في كل مكان التماسا لتأييد هذه الجماعة أو تلك بما هو معروف عنها من تأثير في المجتمع,هذا ما يفعله ساسة أمريكا مع اللوبيات (وإن لم تحكم), وهنا أتذكر قول مشهور لأحد أكبر حاخامات اليهود في إحدى مؤتمراتهم بأمريكا قبل إحدى الانتخابات الرئاسية هناك, حيث طرح أحدهم على المؤتمر فكرة ترشيح رئيس يهودي لأمريكا, وعلل ذلك بالنفوذ اليهودي الكبير في المؤسسات الإعلامية والاقتصادية والخدمية والسياسية أيضا, وهنا قام أكبرهم وقال : لم يحن الوقت بعد, ثم نحن نحقق بجماعتنا مالا نستطيع أن نحققه برئاسة الدولة. وفي سياق أخر بنمط إسلامي نرى استجابة حزب العدالة والتنمية في تركيا لعديد من المطالب لجماعة فتح الله كولن الدعوية الشهيرة بتركيا. أهم مهام الجماعة في واقعها الجديد 1/ مع المحافظة على وسطية الإسلام واعتداله وشموله للمساهمة في محو الصورة السلبية عن الإسلام في العالم بعد أن تشوهت على أيدي كثير من الناس, فإنه يُعول على الجماعة (في ثوبها الجديد) نشر قيم العدالة والحكم الرشيد والربانية والفاعلية الحضارية بكل مصادر قوتها ,والتي أدي ضمورها الى وصول الأمة الى حالها الراهن من التخلف والهوان. 2/ العمل على استقلال الأمة من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية . 3/, إعادة ترميم ثم تعزيز انسانية الإنسان المصري التي تعرضت للهوان في زمن الاستبداد,وذلك بالتربية (وليس بالتعليم فقط) على نهج السلف الصالح وأبرار الأمة في كل زمان ومكان كي يخرج للأمة من رجالها أمثال ابي بكر وعمر وعثمان وعلي, ومن نسائها كخديجة وعائشة وأسماء والخنساء, ومن مجاهديها كخالد وأبي عبيدة وصلاح الدين وقطز, ومن شبابها كمعاذ ومصعب وزيد ومحمد الفاتح, ومن العلماء كالخوارزمي وابن سينا. الملاذات الأمنة من الطبيعي بعد الثورات والتغيرات الكبري أن يسعى بعض الشباب للتعبيرعن نفسه, وهنا لا أرى مخاصمته, بل المحافظة على قوة العلاقة وتمتينها معهم، بعد أن ساهمت الجماعة في تحصينة بالأدبيات العامة والمبادئ الكلية,ثم تترك لهم حرية الإرادة والاختيار,فمن أراد أن يؤسس حزبا فلا مانع, ومن أراد أن ينضم للوسط أو غيره فلا مانع, ومن أراد أن يدعم حزبا أخر فلا مانع, ويمكن أن ينتشر راغبو العمل السياسي وفقا لميولهم في بعض الاحزاب المصرية, ولعل ذلك يحقق نفعا كبيرا حين يحملون القيم التي تربوا عليها, فيبشرون بها داخل هذه الاحزاب, ولا يُخشى من تلون بعض اعضاء الجماعة بلون هذا الحزب أو ذاك, فالذي لديه دافع للتلون سيتلون وإن كان في المسجد!. إن بعض الآباء قد يحرمون أبنائهم من السفر للتعليم بالخارج خشية تأثرهم بواقع تلك البلاد, وهذا يعني تشكك الأب الدائم في قدرة أبنه على ثباته على الحق, فالإبن الضعيف لن يعصمه حضن أبيه من الانحراف (وكم جرت حالات انحراف وزيغ داخل كثير من الحركات والأنشطة الإسلامية), وعلى ذلك, أتصور بعد أن تهدأ فورة الثورة, وحين يتم التقييم الهادئ المستقر لكثير من الخيارات,فلعل الجماعة, أو حزب الجماعة يكون ملاذا آمنا للحياري طالما لم ينفك رباط الحب والمودة والفكر المشترك. وأخيرا: لعل هذا الحواريساهم في فتح النقاش الحر حول ما تم طرحه, ويكون بمثابة استطلاع للرأي واختبار لهذه الأفكار, بقبولها كليا أو جزئيا أو رفضها أو بلورة غيرها منها وصولا للأنفع والأرشد, سائلا الله أن يجمع لنا بين الصواب والإخلاص. [email protected]