استقر في أفهام كثير من المسلمين أن الإسلام دين ودولة, أو دين وأمة أو منهج حياة, أو كما ذكر الإمام محمد عبده انه دين ومدنية, وهي نظرة أكثر شمولا لأنها لا تتعلق بالدين و الدولة (الحكم فقط ) ولكنها تتعلق بالدين والحكم والأمة معا, وعلى مدى زمن طويل لم تنجح محاولات قام بها بعض غلاة العلمانيين لقصر الاسلام على الاطار الروحي فقط , لأن رؤيتهم ربما كانت تتسق مع ديانة أخرى, لكنها بالقطع لا تصلح شرعا وعقلا مع دين الإسلام, وعندما قامت حركات الاحياء الديني, ونفضت الغبار عما توارى من صحيح الدين أصبح لمفهوم شمول الإسلام استقرارا أكبر وشيوعا أكثر لدى كثير من المسلمين.. وعندما تأسست جماعات تنادي بالتطبيق العملي المُعبر عن هذا الشمول, تعددت الرؤى والمناهج, فمنهم من رأى أن شمول الخطاب يعني شمول الممارسة باعتبار أن الصحب الكرام في فجر الدعوة قد قاموا بكل الأعمال (العبادات و الدعوة والهجرة وإقامة الدولة والجهاد وغير ذلك),بينما رأى أخرون أن شمول الإسلام لا يتعارض مع توزيع المهام وفقا لتخصصات وأدوار. وفي فجر الدعوة قام الصحب الكرام بكل المهام وذلك لقلة عددهم, ومع ذلك, فقد وظفهم النبي صلى الله عليه وسلم وفق تخصصاتهم كما هو معروف, ومع اتساع دولة الإسلام أصبح للدولة حكامها ومؤسساتها ودعاتها وفقهاؤها وجيشها. وفي صدر الرسالة أيضا كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل مكان العبادة, وقاعة العلم, ومجلس الشورى, وفيه يُتخذ قرار الحرب وبقية شئون الناس, ومع كثرة الناس وتطور مفهوم الدولة جيلا إثر جيل, أصبح لكل مهمة من هذه المهام مؤسسات عدة, فأصبح للتعليم مثلا" حتى الديني منه" مدارس ومعاهد وجامعات كُثر بتخصصات شتى, ومعامل وقاعات وأبحاث .. وحين كانت مصر تحت الاحتلال الداخلي من ناحية, وخطر العدوان الصهيوني على الحدود من ناحية أخرى, فقد أسس الإمام البنا رحمه الله الجناح العسكري للجماعة (التنظيم الخاص) ليقوم بشرف رد العدوان الواقع على الأمة, ولم تستمر هذه المهمة طويلا, فعندما حدث الاستقلال, وأصبح للدولة جيش وطني لم تعد ثمة حاجة لكي تقوم الجماعة بوظيفة الجهاد( بمعناه القتالي), ولم يكن ذلك تقصيرا في تعبير الجماعة عن شمول الإسلام (باعتبار أن الجهاد يمثل ذروة سنامه), لكنه كان يمثل حسن رؤية وإدراك وفقه, إذ رأينا كيف نادى آخرون بإحياء الجهاد (الفريضة الغائبة) ,فسالت دماء غالية وبريئة, في ذهول تام عن توجيه الجهاد( بمعناه القتالي) ضد الأعداء وليس ضد بني الأوطان, وقد كان للإخوان رؤيتهم الواضحة بخطأ هذا النهج وانحرافه..وقد عاد الفريق الذي انحرف بالجهاد عن غايته( بعد مراجعات مُعتبرة وقيمة) الى رؤية الإخوان السلمية والمعتدلة والمتدرجة, والفضل لله سبحانه.. تمايز العمل الحزبي عن العمل السياسي أحسب أن جماعة الإخوان تشهد حاليا ( كما يشهد الوطن والأمة ) منعطفا جديدا, فقد أتسعت اعمالها وزاد اتباعها, وتعددت أنشطتها, ومن ثم أصبح الأمر يتطلب نظرة أخرى لمسارات الدعوة وأنشطتها, ولعل الملف السياسي الذي أصبح له زخما ميدانيا وحركيا كبيرا, يتطلب أيضا نظرة خاصة ومتميزة, وإذا كان العمل الجهادي قد أصبح لجيش البلاد دون سواه, فقد أصبح العمل السياسي (مع تطور الدولة) ضمن أوعية مستقلة تمثل الأحزاب أحد أهم مساراتها, وقد استقر في أعراف البلاد المختلفة ممارسة السياسة من خلال هذه الأحزاب,ولذلك, عندما تقوم الجماعة بتأسيس حزب لممارسة العمل السياسي بتمايز واستقلال عن العمل الدعوي, فلا أحسبه يخل بمبدأ شمول الإسلام, ولكنه يعبر عن استقلال يؤدي للتخصص والتجويد ويخفف الأعباء, واحسب أنه من المهم أن يكون هذا الاستقلال تاما فنيا وإداريا, ولا ينصرف ذلك الى استقلال الخطاب, إذ لا يصح أن يغيب الخطاب السياسي عن العمل الدعوي, فلا يمكن أن ينفصل خطاب دعوي يتعلق بشئون الناس والحياة عن الحديث في السياسة التي تتعلق أيضا بشئون الناس والحياة, وقد جهر علماء ودعاة ومصلحون (قديما وحديثا) بواجب النصح على اطلاقه, تطبيقا عمليا للحديث الذي رواه مسلم عن تميم بن أوس الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ الدين النصيحة (ثلاثا), قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم]. الحزب ومتغيراته عندما قدم الإخوان رؤيتهم الأولية عن برنامج لحزب مقترح لبعض رموز النخبة في مصر تلقوا ملاحظات معتبرة عبرت عن مخاوف مشروعة, وقد كان من الممدوح أن يستطلع الإخوان رأي النخبة في غير عزلة أو استعلاء... وقد أثار برنامج الحزب" مشكلات" بأكثر مما قدم من " حلول", وأتصور أن جماعة إسلامية تعمل في ميدان العمل العام وتتعرف على مشكلاته هي الأقدر على تقديم اجتهادات واقعية لمشكلات العصر, لأن اجتهادها ينبع من حسن قراءتها للواقع.. فقد كان أهم ما يميز علماء الأمة في كثير من الأزمنة أنهم علماء عامة, يعيشون مشكلات الناس, فتأتي فتاواهم واطروحاتهم انعكاسا لها, ولعل هذا ما قصده ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين":( ولا يتمكن المفتي و لا الحاكم من الفتوى و الحكم بالحق الا بنوعين من الفهم احدهما فهم الواقع, والثاني فهم الواجب في الواقع)..لقد كان البرنامج معبرا عن (الجماعة) التي رأت أن تحافظ على ما تراه من ثوابت, وليس عن (حزب) يتعامل حركيا أو مرحليا مع واقع متغير. الجماعة وثوابتها ليبق الأزهر وجماعة الإخوان وغيرهم من الدعاة الى الله يشكلون "معاً" سياجا حصينا لحفظ الدين وأداء دورهم الرسالي الكبير ( كل حسب أسهاماته) كما يعملون على تمتين الدعوة الى الله,في خطاب لا ينعزل ولا ينفصل عن أي جانب من جوانب الحياة, ولعل ذلك يكون ترجمة صحيحة لمقولة الإمام البنا بأن تكون الدعوة (روح تسري في هذه الأمة),.أما العمل الحركي الميداني ( الحزبي مثلا) فسيكون عليه صياغة برنامج مرحلي متدرج ينقل الناس خطوة خطوة صعودا نحو المثال, دون تعجل أو اعتساف للمراحل..ولا أري حينئذ عيبا أو حرجا أن تنتقد جماعة الإخوان مواقف الحزب المستقل, فالجماعة تتطلع للمثال وتتمسك بالثوابت وتنحاز للمجموعة الإسلامية بكل مكوناتها ( أزهر وإخوان وسلفيون وتبليغ وأنصار سنة وجماعة إسلامية وغيرهم) وتتعمق الروابط بينهم وتتكامل لاتمام تحقيق استقلال الأمة وتعميق هويتها( نعم استقلال الأمة من ارتهان ارادتها مما فُرض عليها من هيمنة بالإضافة الى تعميق هويتها الحضارية ) وهذا يحتاج لجهد تكاملي موحد كبير, أما الحزب المستقل فيعمل على تعميق الحرية والعدالة والتنمية بشكل واقعي متدرج, فقد لا يرى الحزب (على سبيل المثال) ضرورة نقض اتفاقية ما نظرا لقراءة واقعية, بينما ترفض الجماعة هذه الاتفاقية أو تلك, أو تطالب بتعديلها.. وغير ذلك كثير في ميدان الثابت والمتغير والدائم والمرحلي.. تجارب على طريق التمايز كتب د. محمد الهلالي – موقع حركة التوحيد والإصلاح [[ إن التمايز بين الدعوي والسياسي عند حركة التوحيد والإصلاح آخذا في التبلور ليشكل أطروحة فكرية ومنهجية لا تشكل فقط علامة من علامات تفرد الحركة ولا نقطة من نقاط تميزها في مشهد العمل الإسلامي العالمي وحسب، بل تعتبر إضافة من إضافاتها النوعية إلى القاموس الفكري والسياسي وسمة من سمات التجديد الفكري والمنهجي للعمل الإسلامي المعاصر. وذلك لما حملته من تجاوز لمجمل الأنماط التقليدية السائدة ولما حملته من جرأة غير مسبوقة على المستويين الفكري والعملي معا. فشمولية الإسلام وصلاحياته لكل زمان ومكان والإسلام دين ودولة ولا إله إلا الله منهج حياة وغيرها... هي المقولات التأسيسية التي انبنت عليها المقاربات التقليدية للعمل الإسلامي المعاصر ولدور الإسلام في الحياة اليومية, وهي مقولات رغم ما انطوت عليه من رؤية نقدية للواقع الموروث وقتئذ، فإن هذه المقولات لم تتجاوز الوظيفة التعبوية لرفض هذا الوقع والتمرد عليه والانخراط في حيوية اجتماعية لتغييره دون أن تتمكن من تقديم بديل يؤسس لأطروحة متكاملة تؤطر ما بعد هذا الرفض . وهكذا وجدت الحركة الإسلامية نفسها في مواجهة أسئلة حرجة تضع شعاراتها الأولى على المحك وتتطلب مزيدا من الاجتهاد والجرأة على المراجعة والنقد وهو ما لم توفق إليه كثير من فصائل العمل الإسلامية التي سجنت نفسها في أدبياتها التأسيسية. غير أن حركة التوحيد والإصلاح بفضل المراجعة التي تأسست عليها وبفضل انفتاحها على مختلف مدارس العمل الإسلامي وعلى التراث النقدي الذي أنتجه كثير من روادها المنفصلين عنها أو المطرودين بفعل ميولاتهم النقدية كل ذلك حررها نسبيا من كثير من العوائق ومكنها من تجاوز كثير من الأدبيات التقليدية. وفي هذا الإطار تبلورت معالم نظرية التمايز بين الدعوي والسياسي وترجمتها العملية في علاقة الحركة بالحزب( حركة التوحيد وحزب العدالة والتنمية ) وهي نظرية إذ ترفض المنظور العلماني الذي لا يعترف بأي صلة بين الحقلين ويحصر الديني في دائرة محصورة لا تتجاوز الشأن الخاص للأفراد فإنها لا تلغي تماما بعضا من الحيثيات المؤسسة لها رفض توظيف الرأسمال الرمزي لأغراض سياسية أو حزبية ...وفي مقابل ذلك فإن التمايز بين الدعوي والسياسي وإن اشترك مع المنظور التطابقي في أن الإسلام دين ودنيا, دعوة ودولة، فأنه يفارقه في كثير من التفاصيل العملية والتدبيرية إذ يؤمن بإمكانية الاستقلال التكاملي التخصصي لكل حقل عن الأخر .. وهذا ما عبرت عنه الحركة بعدة مقولات محورية منها مقولة "وحدة المشروع بدل وحدة التنظيم" و"شمولية الإسلام لا تستدعي بالضرورة شمولية التنظيم الخادم له" وهو ذاته ما تمت ترجمته في مقولة الشراكة الإستراتيجية والاستقلال التنظيمي. من يتغافل عن هذا البعد النظري، سيبقى فهمه حبيس مقولة "الوجهتين للعملة الواحدة" ولن ينظر لحزب العدالة والتنمية سوى باعتباره "جناحا سياسيا" لحركة التوحيد والإصلاح ولهذه الأخيرة على أنها "ذراع دعوي" للأول أو في أحسن الأحوال سيبقى في إطار البحث عن من يمثل الأصل ومن يمثل الفرع فيهما, أي مواصلة الترويج لأنماط في علاقة رسمتها بعض التجارب في هذه الدولة أو تلك.]] أخطار محتملة إنني أحسب أن مصر وهي في حالة مخاض سياسي واجتماعي ربما يؤدي هذا الي سيولة وفوضى تتكاثر فيها الجماعات والأحزاب وتتشرذم ووتتقسم ووتتناثر, ولذلك أرى أنه ثمة واجب كبير على الحركة الإسلامية الأم أن تسعى لتكوين كيان إسلامي دعوي موحد يضم الراغبين للعمل الإسلامي المنظم, وكيان أخر سياسي غير مؤدلج يكون وعاءً كبيرا برؤية تجمع غير المؤطرين حزبيا من الإسلاميين والقوميين والليبراليين, لخدمة الوطن والأمة معاً, ولذلك فإن أهمية فصل وتمايز العمل الحزبي عن المؤسسة الدعوية الجامعة من شأنه أن يحفظ للجماعة دورها وتواصلها الفكري والمنهجي مع بقية مكونات العمل الإسلامي ( الذي ربما يكون كله مُنظما وفي النور), دون أن تتبنى ( كجماعة) خيارت تتلقى عليها ملاما وعتبا من الجمهور الإسلامي العريض, بينما يستطيع الحزب( الكيان السياسي المستقل) أن يتبنى خيارات وبرامج ومواقف واقعية عملية حركية تتوافق مع الظرف المحلي والإقليمي والدولي, وليست الجماعة مضطرة للقبول بذلك, أما إذا أصبحت خيارات الحزب هي خيارات الجماعة ( الثابتة) فهذه من شأنه أن يعرقل مسيرة الحزب, وإذا أصبحت خيارات الجماعة متوافقة مع خيارت الحزب فقد يفقدها ذلك ثوابتها وتاريخها وجمهورها الإسلامي, والفصل يحقق مصالح الإثنين, الحزب والجماعة, أما إذا خرج حزب الجماعة وفقا لأنماطها التقليدية الإدارية والثقافية, فقد يؤدي ذلك الى سعي كثير من أبناء الحركة الإسلامية ( وخاصة في مناخ الحرية) الى تأسيس حزب أخر, ووربما هذا يؤدي الى بعثرة وتشتت.. هل من مصلحة لهذا التمايز إن تصور االكيان السياسي المقترح للمشروع الذي يبشر به ويسعى إلى تحقيقه له جوانب كثيرة متصلة بهذا المشروع ,مثل العلاقة مع الدولة ومكونات الحقل الإسلامي والشركاء في الوطن والعلاقة مع العالم ومع المنظومة الدولية, لأنه من الأهمية ادراك هذه المعطيات جيدا للكيان السياسي, ولعل ذلك يحقق مصلحة للحركة الإسلامية من جهة, وللعالم من جهة أخرى, لإزالة كثير من التوجس الكامن من هذا المشروع أنه مشروع اقصائي لا يعترف بأي أخر, ولعل ذلك يحقق تعايشا فريدا بين بني البشر وفقا لقواسم انسانية مشتركة, ودعما لخيارات السلمية والاعتدال, وسحبا للبساط من تحت أقدام أصحاب خيارات العزلة والعنف, إذ لا حاجة لأي نظام أو للعالم اليوم إلى تكثير سواد الفاعلين خارج العملية السياسية، والعمل العام والعلني.. [email protected]
