أصدرت وزارة الداخلية بيانا تنفي فيه صحة وقائع التعذيب وانتهاك آدمية المحبوسين احتياطيا "المعتقلين" في السجون المصرية ، ووصفت تلك الشهادات المتعددة والموثقة من المجني عليهم بأنها "ادعاءات" وقالت الوزارة أنها ترحب بأي شكوى من أي جهة لكي تحقق فيها من خلال أجهزة الوزارة ، كما قالت أن هناك منظمات حقوقية تزور السجون للوقوف على الأوضاع فيها ، وناشدت الوزارة وسائل الإعلام التحقق من تلك "الادعاءات" قبل أن تنشرها على الرأي العام ، هذا مختصر بيان الداخلية ، وهو بيان نمطي كنا نقرأه حتى أيام حبيب العادلي وحسني مبارك ، لم تعترف الداخلية أبدا أنها مارست التعذيب إلا مصادفة وبخطأ من أحد ضباط التعذيب يضطر المحكمة لإدانته كما حدث في واقعة "عماد الكبير" عندما اشتهى الضابط أن يصور بكاميرته أداءه المتميز في التعذيب فتسرب الشريط ، كما لم تعترف الداخلية أبدا أنها قتلت أحدا في ميدان رابعة العدوية وأقسم وزيرها "الإنسان" بأن الضباط لم يطلقوا طلقة رصاص واحدة ، فالمذبحة التي أصبحت رمزا عالميا قام بها فرسان مالطا وحركة حماس ومنظمة داعش ، وكذلك نفت الداخلية وشهودها "المحترمين" أن يكونوا قتلوا أحدا في ميدان التحرير أو غيره في ثورة يناير ، مئات المتظاهرين ماتوا بالخضة ، ولم يقتل أحد في محمد محمود ولا في وسط القاهرة ولا في الجامعة ، وملايين المتظاهرين الذين هتفوا "الداخلية بلطجية" كانوا مأجورين أو مضللين أو لم يعرفوا الوجه "الحنين" للمؤسسة الأمنية . الملاحظة الأساسية أن الداخلية في بيانها لم تطرح نهائيا فكرة أن هناك قانونا وعدالة ونيابة وقضاء ، فلم يطرح البيان من قريب أو بعيد فكرة أن يتم التحقيق في تلك البلاغات والشهادات والوقائع من قبل النيابة العامة أو القضاء ، هي قالت أنه يمكن أن يلجأ المتضرر لها هي ، للجهة المتهمة بممارسة التعذيب ، والضباط سيقومون مشكورين بالتحقيق في الشكوى وإبلاغ الضحايا بالنتائج ! ، والسجون وفق الدستور الجديد هي في ولاية وزارة العدل ، وحتى لو كانت ما زالت في مسؤولية الداخلية ، فإن الالتزام القانوني والأخلاقي والإنساني يستدعي من النيابة العامة أن تتحرك وأن تفتح تحقيقات موسعة في تلك الانتهاكات التي تواترت عبر شهادات معلنة داخل مصر وخارجها ، ووصلت إلى حد أن يأتي ممثل للاتحاد الأوربي إلى القاهرة للاطلاع عليها ومقابلة ممثلي المنظمات الحقوقية ، البيان الذي ينتظره الناس ليس من مكتب وزير الداخلية ، لأنه المتهم في ذلك ، وإنما البيان ينتظره الشعب المصري من النائب العام أو وزير العدل ، حتى لا يفتح الباب كما هو حادث الآن أمام حملات إدانة دولية للقضاء المصري واتهامه بالتغاضي عن التعذيب والانتهاكات الخطيرة للحريات العامة ولحقوق الإنسان في مصر ، فصمت النائب العام عما يحدث خطير ، وهو يضر جدا بسمعة القضاء المصري . تحدث بيان الداخلية عن منظمات حقوقية تتابع وتزور السجون ، وبغض النظر عن حقيقة ذلك واستدامته ، خاصة وأن الضباط يهددون الضحايا بمزيد من النكال والسحل إذا تحدثوا لأحد أو جهة عن التعذيب ، وهم أسرى تحت أيديهم سيعودون إليهم بعد ساعات من الزيارة أو المقابلة لاستكمال "العمل" ، لذلك لم يتحدث إلا من خرجوا وأصبحوا بعيدا عن قبضة الداخلية وسجونها ، غير أن تلك المنظمات الحقوقية التي يستشهد بها الوزير هي التي تعلن هذه الاتهامات الآن ، وأمس كانت تلك المنظمات تجتمع مع ممثل الاتحاد الأوربي وخرجوا من الاجتماع ليعلنوا أن الانتهاكات الواسعة للأمن تعطي الانطباع بأن مصر الآن أبعد ما تكون عن مسار الديمقراطية وحقوق الإنسان ، كما أن التقارير التي تنشرها الصحافة العالمية ، من استراليا إلى كندا مرورا بأوربا ، وليس الصحافة المصرية وحدها ، عبر شهادات صحفيين ومواطنين أجانب قادهم حظهم العاثر إلى سجون مصر وأقسامها ، هي شهادات دامغة على التعذيب والإهانة والاستباحة الوحشية لكرامة الإنسان ، فلا يعقل أن العالم كله يكذب ووزير الداخلية المصري هو الصادق الأمين . قضية التعذيب مسألة أخلاقية وإنسانية ، قبل أي سياسة أو موقف سياسي ، وقبل أي قضية من أي نوع ، التعذيب جريمة في حق البشرية لا يبررها أي شيء ، وفي الدستور الجديد تشديد بالغ على كونها جريمة لا تسقط بالتقادم ويحاكم من اقترفها ومن تستر عليها وهم كثيرون في الواقع ، والتضامن مع ضحايا التعذيب أيا كانت انتماءاتهم السياسية أو الفكرية فريضة دينية وإنسانية وأخلاقية ووطنية أيضا ، والعمل على وقف الانتهاكات وإنقاذ الباقين من التعذيب ضرورة آدمية ، وتطهير الداخلية والجهاز الأمني من تلك النماذج الشائهة والمرضى الذين يمارسون التعذيب يزيد المؤسسة قوة ويزيد احترامها وهيبتها لدى المواطنين ، فلا مصلحة لأحد في إضعاف الداخلية أو الجهاز الأمني ، ولكن هذه الممارسات البشعة ، على المدى البعيد ، تضعف الشرطة وتسقط هيبة رجالها كحماة للقانون ومنفذين للعدالة ، وتوفر البيئة الخصبة لنمو العنف والإرهاب المتجاهل للقانون ، كما تهيئ البلاد لموجات ثورية أخرى لا يعلم إلا الله مداها وضحاياها ومصير البلد بعدها ، لم نقم بثورة من أجل أن تعود لنا قبل مرور ثلاث سنوات عليها ، نفس ممارسات البلطجة والتعذيب وإهانة كرامة الإنسان ، لا بد من وقفة صارمة ، ولا بد من تضامن ، ولا بد من رأي عام قوي وجاد وشجاع لوقف تلك الجرائم وملاحقة المتورطين فيها .