تعلقت أسماع وأبصار الملايين حول العالم منذ أكثر من شهر بتلك الوثائق المثيرة التي ينشرها موقع "ويكيليكس" الذي أصبح أشهر من نار على علم كما يقول العرب في أمثالهم ، نظرا للضجيج الواسع الذي أحدثته الوثائق ، ومن هول الصدمة لم يصدق البعض حتى الآن أن تكون هذه الوثائق قد سربت بمثل هذه السهولة من دولاب أسرار الخارجية الأمريكية ، كما لم يصدق آخرون عجز الولاياتالمتحدة عن وقف الموقع أو إعاقته ، فراحوا يكتبون أو يتحدثون بمنطق نظرية المؤامرة الشهير ، بأن هذه لعبة أمريكية ، ثم اختلفت التفسيرات في أسباب هذه اللعبة . أحترم تصورات الجميع ، وإن كنت أتصور أن التسريبات كانت صدمة حقيقية للخارجية الأمريكية ، وأنه لا مؤامرة فيها ولا يحزنون ، ولكني من جانب آخر على يقين من أن تلك الوثائق لم يكن فيها ولن يكون شيء مما يمكن أن يمثل تهديدا جديا للأمن القومي الأمريكي ، ولو كان فيه مثل تلك الوثائق فإن الأمريكيين سوف يوقفون كل شيء ، وهناك ألف مبرر ومخرج يمكن أن يستندوا إليه في ذلك . لكن الأمر الذي ينبغي استحضاره دائما أثناء قراءة تلك الوثائق ، أنها ليست بشكل مطلق ودائم أدلة حاسمة على حقيقة من الحقائق ، بقدر ما يمثل بعضها وجهة نظر السفراء الأمريكيين أو الديبلوماسيين الأمريكيين في عواصم العالم المختلفة تجاه الأحداث الداخلية في البلدان التي يعيشون فيها أو يمثلون دولتهم فيها ، أحيانا تكون تلك النظرة ثاقبة لنشاط ذلك الديبلوماسي وشبكة معارفه وتدخلاته ، وأحيانا تكون نظرات سطحية للغاية ومثيرة للشفقة وأشبه بتلك التقارير الساذجة التي نقرأها في الصحف القومية المصرية مثلا ، وتكون تلك التقارير أشبه "بسد خانة" من قبل ديبلوماسي كسول ، ربما كان مشغولا بسهرات خاصة للفرفشة أو البيزنس الخاص ، أكثر من اهتمامه بمجال عمله الأساس ، وبعض الوثائق عبارة عن معلومات ينقلها الديبلوماسي عن آخرين قد تكون في إطار تصفية حسابات مع خصوم وأحيانا تكون بالفعل معلومات خطيرة ، وبالتالي من المفيد والمهم التعامل مع تلك الوثائق بشيء من الحذر والانتباه . وقبل عدة أيام تم نشر وثيقة من تلك الوثائق في صحيفة الجارديان مصحوبة بزفة تتهم الرئيس السوداني عمر البشير بأنه "هبر" تسعة مليارات دولار من أموال السودان وهربها إلى حساب خاص به في مصرف "لويدز" البريطاني ، وقامت ضجة ، وسخر السودانيون من تلك المعلومات ، شعبا وحكومة وحتى المعارضة ، ليس فقط لأن السودان لا يملك ترف "تسقيط" مبلغ ضخم كهذا للتهريب ، وإنما أيضا لأنه ليس للرئيس السوداني وريث يمكن أن يترك من أجله هذا المبلغ الضخم ، ناهيك عن السمعة المميزة للرئيس البشير في مسائل المعيشة ونفقات الحياة وتواضعه المشهور جدا ، وقد شرفت بمقابلته شخصيا مع وفد صحفي فيما يسمى "قصره" وكان الأثاث الذي جلسنا عليه معه أقل فخامة من أثاث بعض أصدقائي في القاهرة من متوسطي الحال . ثم بعد أن أخذت الزفة مداها والتشهير أبعاده الكافية ، وذهبت السكرة وجاءت الفكرة ، ودقق الناس في الوثيقة ، اكتشفنا أنها معلومات قال فيها الديبلوماسي الأمريكي أن الأفاق "لويس مورينو أوكامبو" المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الذي يكره البشير كراهية عمياء ، لأنه أذله وأهانه ، هو الذي أطلق تلك الشائعة وأنه أخبر الديبلوماسي الأمريكي أنه "يعتقد" أن البشير اختلس تسعة مليارات دولار من أموال الدولة لحساب خاص به في مصرف "لويدز" ، وقال "الأفاق" أنه إذا ما نشر هذه المعلومات فإن نظرة الرأي العام السوداني تجاه البشير ستتحول من "مناضل" إلى "لص" ، وذلك قبل أن يصدر بنك "لويدز" بيانا حاسما نفى فيه بشكل قاطع تلك الترهات التي روجها أوكامبو عن الرئيس البشير ، وأكد أنه لا يوجد دولار واحد في البنك لحساب الرئيس البشير كما لا يعرف البنك أي شيء عن تلك الادعاءات . المسؤولون السودانيون علقوا على الخبر وادعاءات "أوكامبو" التي نشرتها الوثائق بأنها مثيرة للضحك ، وهي كذلك بالفعل ، غير أن الشاهد من تلك الواقعة أنها تأتي دليلا جديدا على طبيعة تلك الوثائق ، وتنبيها قويا على أهمية التعامل معها بوعي وحذر . [email protected]