يصعب على المرء أن يبتعد بقلمه أو صوته عن مجرى الأحداث السياسية الساخنة التي تعصف بمصر حاليا ، ولكن بعض المواقف والأحداث "الاجتماعية" المصاحبة لتلك الأيام النكد تشعرك بما نسميه عادة "فقع المرارة" من فرط استفزازه وعبثيته ، ومنذ عدة أسابيع وأنا أقاوم الكتابة عن الثورة المصرية الثالثة التي كنا ننتظرها في أحياء البسطاء والغلابة والباحثين عن رغيف العيش أو أنبوبة الغاز ، فإذا بها تتفجر في حي الزمالك ، حيث انتفض باشوات الزمالك ضد خطة الحكومة المصرية لمد خط مترو الأنفاق في مرحلته الأخيرة إلى حي امبابة قادما من العتبة ، وهي مرحلة شديدة الأهمية بالنسبة لكتلة سكانية ضخمة تعاني من صعوبة الحركة والانتقال طوال اليوم إلى أحياء القاهرة المختلفة ، ثورة سكان حي الزمالك تتلخص في رفضهم بتاتا أن يتم إنشاء محطة مترو الأنفاق في أي شبر من أرض حي الزمالك ، وهددوا الهيئة القومية للأنفاق بالتصدي لأي أعمال ستقوم بها في الحي ، معتبرين أن وجود محطة لمترو الأنفاق ستجعل من الحي ملطشة للغوغاء وأبناء البوابين والناس "الدون" ، وأنه لا يليق بأبناء الأكابر أن يتحركوا كتفا بكتف مع الهمل والرعاع من أبناء بقية الشعب المصري ، ويبدو أن ثورة حي الزمالك تأتي تطبيقا جديدا لمبدأ "احنا شعب وانتو شعب" ، على الحجار جعلها انقساما طائفيا ودينيا ، وأهالي الزمالك جعلوه انقساما طبقيا ، طبعا رئيس الهيئة القومية للأنفاق ومسؤولين حكوميين حاولوا استرضاء الباشوات وطلبوا عقد اجتماعات مع قيادات الاحتجاج الثوري الجديد ، وتعددت اللقاءات ، حتى أعلن رئيس هيئة مترو الأنفاق أنه لا يستطيع أن يوجد محطة للمترو في حي مع رفض الأهالي وأن الهيئة تفكر جديا في إلغاء محطة مترو الأنفاق . هذا المبدأ الخطير الذي وضعته الهيئة يجعل من حق أي مواطن أو أهالي أي حي أو منطقة سكنية أن يهددوا بقطع يد أي مسؤول يفكر في إجراء أي حفر أو إنشاء أي مبنى لا يوافقون عليه ، وأكثر من ذلك ، فإن من حق كل مصري الآن أن يرفض القبول بأي قرار رسمي يتعلق بما يسمى "المصلحة العامة" والذي كان يصل إلى حد انتزاع أراضي ومنشآت ومباني وعقارات من أملاك الناس الغلابة من أجل أن يمر طريق أو يوسعوا طريق أو ينشئوا أي مبنى يتعلق بالمصلحة العامة ، وبالمناسبة الهيئة انتزعت عمارات ومحلات من الغلابة في حي العباسية بداعي إنشاء محطة مترو الأنفاق هناك وأضير كثيرون في حياتهم وأكل عيشهم ، وداست عليهم الدولة، هيئة الأنفاق لم تكن تريد اقتطاع شيء من سكان الزمالك للمصلحة العامة ، وإنما كانت تريد أن تنشيء محطة مترو أنفاق يستفيد منها ملايين المصريين ، ليس شرطا أن يستخدمها سكان حي الزمالك ، وإنما يستخدمها ملايين المواطنين المصريين لقضاء مصالح لهم في حي الزمالك أو في غيره أو حتى لمجرد النزهة ، فهذا حق أي مواطن ، لأنه لا يوجد أرض مصرية محرمة عليه إلا لاعتبارات عسكرية أو أمنية بحتة ، فهذا وطنه ، ولا يصح لأي مخلوق أن يمنعه ، بطبيعة الحال ، الإيليت أو الألاطة كما يصف العامة من قادة ثورة حي الزمالك حاولوا تلطيف معنى احتجاجاتهم لأنها كانت مهينة لبقية المواطنين ، فحولوها إلى ما يسببه الحفر من تعطيل لحركة المرور ، وهي مشكلة وقتية ليست وقفا على هذا الحي وحده ، فقد تم هذا الحفر في قلب ميدان رمسيس نفسه رغم تعقيداته ومحوريته المرورية وقتها ، وتلك مسؤولية الدولة لتعديل المسارات لحين الانتهاء من أعمال الحفر . رضوخ السلطة لرغبات "الأكابر" وسحقها للغلابة ، سيعطي رسالة بالغة الخطر والسلبية للشعب المصري ، وستزيد الاحتقان الطبقي وتعزز الكراهية الاجتماعية بكل ما يتوالد عن ذلك من توابع في السلوك والواقع ، والباشوات المشغولون بالإخوان والمظاهرات الآن ، عليهم أن يدركوا أن هناك سلوكيات رسمية ومواقف تفخخ الوطن ومستقبله بأخطر مما تهدده الأزمات السياسية المباشرة .