تأثرنا كثيرًا بالمعنى الإنساني العظيم الذي قدمه لنا أمير قطر الشيح "حمد بن خليفة آل ثاني"، حينما أصر على أن يلغي جميع ارتباطاته الرسمية، من أجل الحضور إلى مصر لتقديم واجب العزاء والمواساة لأسرة مدرس مصري عاش في قطر، وشاءت أقداره أن يقوم بالتدريس لأميرها حينما كان طالبًا في المراحل الدراسية الأولى، ولكن لأن ذلك المدرس كان يشعر بقيمة مهنته، وأهمية الدور الذي يؤديه، فقد أثر ذلك كثيرًا في شخصية كل تلاميذه الذين تعامل معهم، وظل حاكم قطر يحمل معنى العرفان والتقدير للمدرس المصري "أحمد علي منصور"، فقام بتقديم العزاء لأسرته المكونة من ثلاثة أبناء في دولة قطر، وعندما علم بأن الابن الرابع في القاهرة، أصر على تحديد موعد لأداء واجب العزاء بمنزله هناك، رافضًا كل الأفكار والبدائل التي عرضتها الأسرة، عرفانًا منها بصادق مشاعره، وأصر أن يحضر بنفسه إلى القاهرة، في مشهد افتقدناه كثيرًا حتى كدنا أن ننساه، تجسدت فيه أعلى معاني وقيم الوفاء. أعلم يا صديقي العزيز أنك تكد وتتعب كثيرًا، حتى تصل بالكاد إلى الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة، أعرف أن ظروف الحياة صعبة، ومشاغلها كثيرة، والوقت محدود، في ظل سعيك المستمر، ولكن هل فكرت أنه سوف يأتي حتمًا ذلك اليوم الذي يتقدم فيه سنك، وتقل قدرتك على العطاء، وتصبح في انتظار من يقف بجانبك ويساندك؟ صف لي مشاعرك عندما تجد مشاعر التقدير والوفاء لمن أحسنت إليهم، هل فكرت الآن في أن ترد الدين لأصحاب الفضل عليك؟ إذا كان الاعتراف بالحق فضيلة.. فإن الاعتراف بفضل الآخرين على المرء يكون من أفضل الفضائل. تأثرت كثيرا بما حكاه لي صديقي العزيز الشاعر "وحيد الدهشان" من أنه أعد قائمة طويلة بكل من كان صاحب فضل عليه في حياته، وبدأ في البحث عن هؤلاء الأشخاص وتفقدهم، وبالفعل استطاع الوصول إلى أغلب من كان في تلك القائمة باستثناء واحدة، وهي المدرسة التي أشرفت على تعليمه وتربيته حتى الصف الرابع الابتدائي، وأثرت كثيرًا في تكوين شخصيته، بحث "الدهشان" كثيرًا عن "أبلة حسنية"، ولم يعثر لها على أثر، فقد مضى ما يقارب الخمسين عامًا على المرة الأخيرة التي قابل فيها مدرسته، ولكن لأنه صادق في مشاعره، ولأنه يحمل في قلبه معنى الامتنان والتقدير، فقد ساقت الأقدار في طريقه أحد الأصدقاء القدامى الذي يعمل كموظف إدخال بيانات في هيئة الشئون الاجتماعية، وعلى الفور خطر في بال "الدهشان" أن كل معلومات أصحاب المعاشات لا بد أن تكون مسجلة هناك، فطلب من صديقه على الفور البحث عن بيانات "أبلة حسنية"، وكانت سعادته لا توصف عندما عرف محل سكنها، وهناك في أحد الأحياء الشعبية كانت المفاجأة.. عندما وجدت المدرسة هذا الرجل الذي شارف على الستين عامًا يطرق بابها، ويذكرها بنفسه وبحكايته، ويقدم لها هدية تعبر عن تقديره وامتنانه، ثم يمضي إلى حال سبيله. هل فكرت يومًا أن تفعل مثلما فعل شاعرنا "وحيد الدهشان"؟ لماذا لا تعد تلك القائمة بأصحاب الفضل عليك وكل من قدم لك الإحسان، أو أثر في حياتك، وتتفقدهم ولو باتصال لا يكلف شيئًا؟ هل تتذكر إحسان والديك؟ هل تتذكر إحسان معلمك؟ إن الوفي يحفظ الجميل، ولا ينساه ولو بعد عشرات السنين، أرجوك لا تجعل ضجيج الحياة ينسيك تلك المعاني السامية، في زمننا المليء بالجحود والنكران، قمة السعادة أن تجد كل من حولك يهتمون بك، يسألون عنك في غيابك، يشعرونك برغبتهم في تواجدك بينهم، وتقربك منهم دون أن ينتظروا منك أي مقابل. إذا كان والديك أو أحدهما على قيد الحياة فهنيئًا لك، كن وفيا الآن، واذهب فورًا لتنتهز تلك الفرصة، وتقبل أقدامهما، قبل أن يأتي اليوم الذي تفقدهم فيه، ثم تندم.. وتحلم بلحظات لن تعود في صحبتهم، أما إن الله تعالى قد أراد لهم الوفاة، فلتتعلم أعلى معاني الوفاء من رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي عاش على ذكرى زوجته الراحلة السيدة خديجة، ليقدم لنا النموذج الأعظم في الوفاء، مرت السنون برسول الله بعد موت خديجة، لكنه لم ينسها، لم يشغله عن ذكراها أعباء الدعوة، ولا هول الحروب، ولا الانشغال بتدبير بيوت زوجاته، كان معها على غاية الوفاء، وتجلت أعلى صور وفاءه لها من خلال إكرامه لصديقاتها، فما ذبح شاة إلا وأرسل إليهن إكراماً لذكرى خديجة، جاءته مرة سيدة عجوز فبالغ في الترحيب بها، وأقبل عليها وأكرمها، فتعجبت السيدة عائشة من هذه الحفاوة فقال إنها صديقة خديجة، وكان قلبه يخفق حين يذكر اسم خديجة أمامه، ها هي أختها "هالة بنت خويلد" تستأذن عليه فجأ،ة سمع صوتها وذكر فيه صوت خديجة، فهب قائماً وقال اللهم هالة.. اللهم هالة (أي اللهم اجعلها هالة). ألم تفكر يوما أن في رقبتك دين لوطنك، وأنه يجب عليك الوفاء به، أرجو لا تجعل ما يمر به الوطن من ضنك وتراجع ينسيك الفضل، لا تكن كتلك الزوجة، التي حينما تغضب من زوجها، تنقلب عليه، وتقول له: ما رأيت منك خيرا قط، ألا تذكر أنك نشأت وترعرعت في ربوع الوطن، ألا تذكر أنك تعلمت في مدارسه، وذقت من خيراته، عشت فيه الكثير من اللحظات الجميلة، وامتزج حبه في قلبك مع كل نفس وكل خطوة مشيتها فيه؛ له علينا دين كبير وحق يجب ألا ننساه، العلاقة بالوطن يا عزيزي لا تتحدد بالمكاسب الشخصية، بل هي قضية انتماء جذري يجب أن نغرسها في نفوس أولادنا، ونعلمهم الوفاء بصوره المختلفة، نحتاج إلى تربيتهم على معاني الوفاء، وجعلها ثقافة عامة، ليفهم الطفل من صغره أن الوفاء يبني للإنسان شخصية محبوبة في المجتمع يثق بها الناس، حتى يتحول بمرور الزمن إلى شخصية فذة مطلوبة لقضاء حوائج الناس، وحل مشاكلهم، وتلك نعمة كبيرة وعظيمة يمنها الله تعالى على عبده. شكرًا أمير قطر.. فقد ذكرتنا بتلك المعاني العظيمة، وجاء الدور علينا الآن لنعترف بالفضل، ونؤدي ما يترتب من واجبات نحو أولى الفضل علينا، يا صديقي العزيز.. ابحث في ذاكرتك، وبادر بأن تصبح أنت من يجسد معنى الوفاء لمن حوله، وتذكر دائمًا.. أنه ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط. [email protected]