يبدو المشهد السياسي العالمي اليوم بالغ التعقيد, سريع التغير, إذ يصعب إجراء قياسات للقوى كما كان يجري بالأمس, مع أنه لاتزال ثمة بقية من قياسات الأمس كالقوة العسكرية أو الاقتصادية. ومايترائى لنا على المسرح العالمي يتكرر على المسرح الإقليمي , إذ نرى بعض الدول لا تزال تتغني بما تعتقد أنها تمتلكه من عناصرالقوة كالموقع الجغرافي , أو الرصيد التاريخي, أو عدد السكان دون النظر الى خفوت هذه العناصر أصلا بعد التطور التكنولوجي الهائل الذي أصبحت فيه الأقمار الصناعية تكشف العالم بأسره, ونتذكر يوم أن كان السائر بجوار بعض المباني في مصر ( ولعل بعضها باقيا حتى الآن, يلحظ عبارة ( ممنوع الاقتراب أوالتصوير) مكتوبة على بعض الأسوار, بينما تكَشَّف لنا عبر برنامج Google earth إمكانية رصد أي مبنى وتصويره بأدق مكوناته!!, كما نتذكر يوم أن كانت أفلام الجاسوسية تبين طريقة ارسال الرسائل بالحبر السري, والمعلومات عبر أجهزة الراديو أو اللاسلكي, رأينا الآن كيف يمكن التواصل الإنساني ( بخيره وشره ) عبر انحاء العالم, وهذا فيما تكشف لنا في الحياة المدنية, إذ يلقي العسكريون بفتات مخترعاتهم للمدنيين عندما يعملون بما هو أحدث, كما ألقوا إلينا الفاكس والموبايل وغيرهما.. ولم يعد التاريخ وحده يضمن لأحد تميزا أو تفوقا, فها نحن نرى المملكة المتحدة, الأمبراطورية العظيمة التي كانت لا تغيب عنها الشمس تتعلق بأذيال العملاق الأمريكي في الحرب والسياسة حتى لا تغيب عن المشهد العالمي , حتى أكاد أن أشعر أنها عندما رفضت الانضمام الى العملة الأوروبية الموحدة " اليورو" أنها إذا أرادت أن تنضم لعملة أخرى فإن الدولار أقرب لها من اليورو !!.. النموذج الهندي الهند دولة ذات تاريخ يضرب في أعماق الزمان, ويقترب عدد سكانها من المليار نسمة, وهي دولة متعددة الأعراق والديانات, وشكلت يوما مع مصر مجموعة دول عدم الانحياز, لكنها الآن واحدة من أعرق ديمقراطيات العالم, ومع أنها تمتلك السلاح النووي الذي هو بالأساس سلاح ردع, إلا أن تميزها الحقيقي كان في ميدان البرمجيات (Soft ware) حتى صارت واحدة من أهم دول العالم في هذا الميدان, وكانت اللقطة الفريدة في التميز هي في استخدام الفارق الزمني بينها وبين الولاياتالمتحدة, فعندما تحتاج إدارة شركة أمريكية برنامج أو حل مشكلة لبرنامج , وقد بدت لها هذه الحاجة في نهاية يوم عمل في نيويورك مثلا, فما عليها إلا أن ترسل المشكلة الى مكتب فني في نيو دلهي ( عندما تكون الساعة في نيو يورك 6.30 م , تكون الساعة 5 ص في نيودلهي ), فيعمل الفني الهندي على حل المشكلة أثناء النهار حيث يكون الأمريكي نائما, ثم يرسل هذا الحل في نهاية يوم عمله, لتجدها إدارة الشركة الأمريكية حاضرة في بريدها الالكتروني صباح اليوم التالي دون أي تأخير, وهكذا, بحسن توظيف هذا الفارق الزمنى مع التميز المهني أصبحت الهند حاضرة بامتياز في هذا المجال في الولاياتالمتحدة بما يدر عليها مليارات الدولارات واستمرار مزيد من التميز التقني الصاعد في هذا العمل, وقد لاحظنا أن الرئيس الأمريكي أوباما قد زار الهند الشهر الماضي تطلعا للتعاون الاقتصادي معها إثر هزيمة حزبه في التجديد النصفى لانتخابات الكونجرس التي أظهرت انخفاض شعبيته وحزبه بسبب الضعف الاقتصادي !! النموذج القطري قطر دولة صغيرة يبلغ عدد سكان دولة قطر 1,7 مليون نسمة بحسب احصائية يوليو 2009 م ويسكن ما نسبته 83% من السكان في الدوحة,وتبلغ مساحتها حوالي 11,400 http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AA%D8%B1_%D9%85%D8%B1%D8%A8%D8%B9 كم مربع ( 4,400 ميل مربع تقريبا ) , بينما مساحة السعودية شريكتها في مجلس التعاون الخليجي حوالي 2,2 مليون كيلو متر مربع , ولا تمتلك قطر من عناصر القوة التقليدية ( القوة العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية أو التاريخية أو الجغرافية ) ما يجعلها تتميز في محيطها الإقليمي, فالكويت أغني منها دخلا, والسعودية أكبر منها مساحة ودخلا وعددا للسكان بالإضافة الى أنها القبلة لأكثر من مليار ونصف مليار مسلم كواحدة من أهم عناصر التميز.. لكن قطر استطاعت بقناة تليفزيونية ناطقة بالعربية, واتبعتها بقناة ناطقة بالانجليزية أن تكون محط أنظار العالم , وقد استمعنا الى تصريح للرئيس الفرنسي ساركوزي وهو يتكلم عن تأثير الإعلام العالمي على الساحة الدولية فقال: إن فرنسا ليس لديها cnn , أو bbc أو الجزيرة ( معتبرا إياها واحدة من أهم ثلاث قنوات مؤثرة في العالم !! ) .. وربما غضبت معظم الأنظمة العربية مما أعتبرته نقدا لها على قناة الجزيرة , لكن الحقيقة أن تميز ومهنية القناة كان مثار إعجاب المشاهد ومتابعته وتفضيله, مما حدا ببعض هذه الأنظمة أن تدخل في تنافس مع الجزيرة لسحب البساط منها, لكنها لم تتمتع مطلقا بجاذبية الجزيرة لدى المشاهد .. وهاهي قطر ( الدولة الصغيرة ) تذهل العالم بنيلها شرف تنظيم مونديال كأس العالم 2022 م وهذه شهادة لاقتصادها وبنيتها الأساسية ومرافقها وثقة في تعهداتها , وقد فازت على حساب الولاياتالمتحدةالأمريكية صاحبة الجاه والمال والنفوذ والقوة الأكبر في العالم !!!.وكانت اللقطة الأبرز في تصريح قادتها بتواضع جميل وأدب جم : أن ما حدث هو إنجاز لكل الدول العربية وليس لقطر وحدها.. وإذ نرى أن قطر قد صنعت تميزا لها في ميدان الإعلام , وهاهي تتبعه بتميز جديد في ميدان الرياضة, نراها في تميز قيادي إنساني غير مسبوق, ففي ظل انشغال دولة قطر وأميرها بمتابعة ملفها المقدم للفيفا, نرى أمير قطر دون بروتوكول أو إعلام يحل ضيفا كريما على مصر معزيا في رجل مصري كان يعمل أستاذا له في يوم من الأيام , ويذهب من المطار الى شقة المتوفى , ويمكث مع أهله معزيا ومواسيا إياهم ثم يعود من فوره الى المطار مغادرا مصر , وهذا الموقف الذي وصفه الأستاذ جمال سلطان في مقالة رائعة بعنوان ( هكذا يفعل النبلاء – المصريون ) لهو صناعة أخرى للتميز الإنساني الفريد !!. درس مستفاد لقد كانت مصر في العهد الملكي رائدة دول العالم في زراعة القطن طويل التيلة, وكانت أكبر محلات أوروبا تتباهي أن تضع على ملبوساتها شعار أن هذه الملابس مصنوعة من القطن المصري , وجاءت حركة يوليو 1952 م , وقال قادتها أن الاستعمار أرادنا دولة زراعية ( وكأن وصف الدولة الزراعية وصفا معيبا ) , لكننا سنثبت للعالم أننا دولة صناعية, ومضت الأيام , ففقدنا الزراعة , وضاع تميز القطن , واستوردنا القمح , وارتُهن قرارنا, ولم نتميز صناعيا , ولو أكملنا جهودنا في المجال الزراعي أكثر مما سواه في تراكم على ما كان, واقمنا صناعات تعتمد على المنتجات الزراعية لكان لنا تميزنا الذي لا شك فيه.. إن الأمم اليوم وكذلك الجماعات, في ظل ارتباك مفهوم وتعريف القوة , يمكن أن تحقق تميزا في ميدان ما , أو تحقق وجودا ونفاذا في مناخ ما بعمل ما, مما يجعل لها تفوقا معتبرا يُحسب لها في عالم اليوم ,دون اغترار بكثرة عدد أو سبق تاريخ.. [email protected]