في زيارة ودية لأحد الأصدقاء؛ الذي يعمل في أحد الجهات السيادية، وفي أثناء سيري في الردهة الطويلة بضوئها الخافت؛ ولعله جو مقصود لتقشعر منه نفوس الزائرين؛ فيزداد توترهم ويتعاظم ارتباكهم وتتضخم رهبتهم من المبنى وشاغليه، وعن اليمين وعن اليسار ترى بعض الرجال يقفون، ويتخيل إليك أنهم يمارسون دوراً مرسوماً، ويتحدون في شيء واحد؛ وهو النظرات الحادة إليك؛ فهم لا يفرقون بين الزائر الودي الذي يأتي برغبته، وبين الزائر الآخر سيء الحظ الذي يأتي أو يؤتى به مضطراً؛ فكلاهما في عرفهم غرباء متطفلون، ومتهمون حتى يثبت العكس، ويوحون إليك أن عيونهم تشع أضواءً كفلاشات الكاميرات الخفية؛ التي تراقبك وتعد نبضاتك السريعة، وتلاحظ سكناتك المتوجسة، وتحصي كل حركاتك المتعثرة؛ فتزداد توتراً فوق توترك؛ فتستحيل تلك النظرات الصارمة إلى سياط تلهب ظهرك المغطى برذات من العرق البارد اللزج، ونيران تلفح وجهك الممتقع صفرة؛ فتقسم بينك وبين نفسك ألا تعود إلى هذا المبنى؛ بل وتتمنى ألا تراه ولو يراه غيرك ولو في أصعب الكوابيس!؟. كئيب ... في مبنى كئيب!؟: وفي أحد الأركان الكئيبة المظلمة الرطبة؛ لمحته فوجدته جالساً كئيباً لا أكاد أن أراه وقد ازدحم حوله ومن فوقه ومن أسفل منه زملاؤه المساكين!؟. فاقتربت منه وقد علاه التراب وامتلأت مساحاته بشخبطات أقلام عابثة، وقد حفر عليه بعض المتطفلون ذكرياتهم وآلامهم وخواطرهم على سحنته بالمسامير!؟. وقد آلمني أن من حفره بمساميره قد خط أخاديداً عميقة؛ وكأنها صرخات تلعن هذا المسكين ومن صنعه ومن أحضره ومن يحمله وما يحتويه!؟. وعلى سحنته وجدت الكثير من الأصباغ الكئيبة الألوان، والبصمات المتفرقة فيذكرك منظره بصندوق ماسحي الأحذية!؟. موسم بيع الأحلام!؟: فدفعني فضولي أن أسأله: أيها المسكين ما الذي أتي بك من المخزن، عفواً أقصد من مكان راحتك؟!. فقال في حزن: أولاً أشكرك لأنك أول ضيف يحادثني ويخرجني من كآبتي؛ ولكنني استشعر أنك بكلماتك إلي ما إلا هي عملية تشجيع ذاتي للخروج من حالتك المسكينة المضطربة والتي تغطيها كلماتك!. ثانياً: أما عن سر ظهوري فهي تلك الأيام المشهودة التي تتكرر كل بضع سنوات؛ فهو دوري المعروف لأشارك في ما يسمونه بالانتخابات. وهو موسم ظهور أقوام وشخصيات وأحداث؛ كما هو موسم ظهور المرتزقة والبلطجية والمال والوعود والكلمات المعسولة!؟. وإن شئت قلت هو موسم السراب والخداع والنفاق، أو بمعنى أدق هو موسم بيع الأحلام!؟. الصندوق ... معيار الناخب!؟. فقلت في شفقة: ألم تزل على نفس هيئتك الرثة التقليدية المعروفة؛ والتي تثير الهم والغم والحزن؟. فرد في عصبية: أعرف ماذا تقصد بهذه الكلمات الجارحة؛ فلعلكم تأثرتم بمنظر تلك الصناديق (الشيك) التي ترونها في انتخابات الفضائيات؛ وقد بدت نظيفة رقيقة وزجاجية شفافة؛ فقارنت بينها وبين سحنتي البغيضة!؟. يا سيدي لا تلوموني ولوموا أنفسكم، وانظروا إلى حالكم قبل أن تنظروا إلى حالي؛ ألست تدري أن شكل ونوع الصندوق الانتخابي إنما هو معيار لمناخ الدولة السائد، أو هو مقياس لطبيعة الناخب والمرشح في أي فئة بشرية!؟. وقارن بين صناديقكم أيها الناخبون والصناديق الأخرى ولن أقول في بلاد أخرى غير بلادكم؛ بل في بلادكم ومن بينكم؛ حيث تمت في انتخابات فئات خاصة مثقفة منكم؛ كالأطباء والمحامون والقضاة والصحفيون!؟. ولا تغرنكم هيئتي؛ لأنها مقياس لهيئتكم أنتم، وعلامة على وضعكم الاجتماعي، ومعيار لوعيكم!؟. فإذا تغيرتم؛ فسأتغير معكم!؟. وتذكروا هذه القاعدة القرآنية: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ". [الرعد11] سارقوا الفرح!؟: ألجمتني صراحة وفطنة هذا الصندوق الفيلسوف؛ والذي صقلته معايشته لتجارب انتخابية مريرة وقاسية آلمته؛ كما آلمتنا، وأحبطته كما أحبطتنا جميعاً!؟. وقلت له بخبث: ما رأيك في أولئك الذين يمارسون عملهم الروتيني القذر كل انتخابات؛ حيث يملآونك برزم من البطاقات المعدة سلفاً؟!. نظر إليَّ في غضب وصرخ: حتى متى تمارسون هذه الولولة المستمرة، وتستمرءون تلك الشكوى الممجوجة؛ والتي لا تملون من تكرارها!؟. ففي كل مرة يسرقون منكم الفرح!؟. ثم تسألونني ما رأيي فيمن يزور ويملآني بالبطاقات المجهزة سلفاً؛ تباً لكم؛ فلِمَ لا تسألون أنفسكم فيما أنتم فاعلون بسارقي أفراحكم، وبالذين يلتهمون ثمار جهدكم في كل مرة!؟. أيها العاجزون المتخارسون ألم تراجعوا مسيرتكم؛ فكلها تجارب بذل وتضحيات جسام ثم لا ثمرة!؟. فلِمَ تصمتون، وتطالبونني بالكلام؟!. ولِمَ تجبنون، وتنتظرون من الشجاعة؟!. ولِمَ تتراجعون، وتطالبونني بالمواجهة!؟. ألم تذكروا تلك الوصية الخالدة: "استعن بالله ولا تعجز". [صحيح مسلم كتاب القدر باب في الأمر بالقوة وترك العجز. والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله (2664)] صندوق ... ميري!: أطرقت برأسي إلى الأرض؛ وأنا أكاد أذوب خجلاً من الكلمات النارية لهذا الصندوق الحكيم؛ وقلت في نفسي الأفضل ألا أقاطعه وأتركه يبث لي همومه؛ دون أن أعلق؛ لأسباب منها: السبب الأول: أنني استشعرت أنه غاضب جداً مني، وتعامل معي بالطريقة الميري التي تربى عليها من طول معايشته لأهل الميري!؟. السبب الثاني: أن ردودي تزعجه، وكلماتي توتره، وتعليقاتي لا تروق له؛ فلعله صنفني ظلماً وحسبني على بعض التيارات التي تعتبر في عرف أصحابه ومن عايشهم أنها فئات محرمة مجتمعياً، وشرائح محظورة قانونياً، وتلك طريقة أصحابه الميري الذين لا يرتاحون حتى يصنفوك أولاً قبل التعامل معك، وقبل السماح لك بالكلام!؟. السبب الثالث: أنه أراد بكلماته وصرخاته؛ أن يبعث رسالة لأصحابه، وأن يلفت نظر العيون التي تراقبنا، والآذان المحيطة بنا؛ والتي تتصنت على حوارنا؛ أن يزيل عن نفسه شبهة أي علاقة تربطه بي؛ فلا أي صلة معرفة أو قرابة أو تنظيم أو تيار معين!؟. هموم ... صندوق!: ثم واصلت حواري؛ فقلت على استحياء وأنا أتحاشى النظر إليه حتى لا يتعصب ثانية: أرجو ألا تغضب من أسئلتي وسأترك لك الحديث دون مقاطعة وأرجو منك أن تعدد أسباب حزنك أو قلقك أو همومك الدفينة واعذر لي تطفلي فلقد استرحت بالحديث معك رغم آرائك النارية!؟. نظر إلىَّ في شفقة وكأنه شعر بخشونته معي لي، وقال: يا رجل دعنا نفضفض معاً، ولا يحزنك ردودي القاسية؛ فنحن كما يقولون (في الهوا سوا) وهمومنا واحدة وحالتنا واحدة والمصلحة واحدة؛ وهي الخروج من هذا الكابوس المناخي الذي طال وطال ليله!؟. ودعني أشكو إليك بعضاً من همومي وأحزاني وتحمَّل صراحتي لسماع هذه الصور المهينة والسيناريوهات الانتخابية المرعبة: 1-التغيير من خلال صندوق الانتخابات: ذلك هو الشعار الممجوج والمستهلك الذي سئمته من رجال النظام، ومن النخب المثقفة؛ فكيف سيتم تداول السلطة وأنا لا حول لي ولا قوة وإرادتي ليست بيدي كما إن إرادتكم ليست بيدكم!؟. فهل يقصدون بكلمة الصندوق كلمة أخرى أو لها تفسير آخر فلعله (صندوق الدنيا)!؟. 2-الفراغ والجوع: وأقصد به هو هذا الشعور الأليم الذي يعتصرني في كل مرة؛ وأنا استشعر أن بطني لم تزل خالية، وجائعة من ملئها ببطاقاتكم؛ رغم قرب يوم الانتخاب على الانتهاء!؟. فساعتها أقع في حيرة؛ هل ألعن أولئك السلبيين الذين يتكاسلون عن التصويت واختيار من سينوب عنهم؟. أم ألعن المحبطون الذين كرهوا الانتخابات وكرهوا ما وقع لهم من تجارب دامية سابقة؟!. أم ألعن أولئك الذين يحاصرون مقري من الخارج ويحولون بين الناخبين وبين الوصول إليَّ؟. أم ألعن حظي معكم ومع نوعيتكم أيها التائهون؛ فلو كنت مع ناخبين آخرين لامتلأت بطني بما أحب من بطاقاتكم المباركة؟!. 3-الأكل الحرام: وأقصد به أن يقوم بعض المحترفين بملء بطني برزم من البطاقات المزورة الكريهة البغيضة!؟. وما يغيظني أنني لا أمتلك الإرادة لأتقيأ هذه الوجبة الحرام من البطاقات الإبليسية الملعونة!؟. ثم ما يغيظني أكثر ويجعلني أكثر تقززاً؛ هو أن هؤلاء المحترفين يمارسون دورهم وهم في نشوة وسعادة ويتضاحكون كقطيع من الحيوانات المفترسة التي لا تبالي بصرخات وآلام ضحيتها!؟. 4-الهيئة الملعونة: لم أزل كارهاً لحالتي ولوني وهيئتي غير الحضارية؛ فمتى سأرتدي ثياباً زجاجية شفافة مثل الصناديق الأخرى التي تتبع البلاد الأخرى أو الفئات الواعية منكم؟!. ألم أقل لكم العيب فيكم وليس في؟!. 5-الاغتصاب المسائي: من الآن وحالتي النفسية سيئة من أن يتكرر معي ما يحدث في كل مرة؛ وهو أن يقوم البعض بتبديلي في الطريق إلى لجان الفرز مساءً، ويأخذ مكاني الصناديق الأخرى المجهزة بليل، ويكون مصيري هو النفي في إحدى ترع أو مصارف ري مصر المحروسة، أو أن يتم تهشيمي بأيدي بلطجية الانتخابات المأجورين!؟. 6-الوحدة: أما السبب الآخر لانحطاط حالتي النفسية؛ فهو أن أفاجأ مثل كل مرة بوجودي وحيداً في لجنة الانتخابات فلا مندوب يحرسني ولا قاضي يراقبني؛ بل أجد حولي حصار أمني يكتم أنفاسي قبل أن يكتم أنفاسكم!؟. 7-العجز: أما السبب الأخطر لهواني على نفسي وسيحطمني نفسياً؛ فهو أن يتم هذا السيناريو القاتل والمتكرر دون رحمة أو ضمير أو ذرة شهامة ونخوة من الخصوم؛ فيتم كل شيء على ما يرام وكما تحلمون وكما أحلم؛ بأن أمتلئ ببطاقاتكم وبأحلامكم، ويتم وصولي بسلامة الله إلى لجنة الفرز، ثم يتم العد والفرز بصورة مرضية، ثم تحدث الطامة الكبرى والخدعة المدوية؛ فيغير بعض القضاة النتيجة في آخر لحظة وفي الوقت بدل الضائع؛ فيتم القبض على حلمكم كما حدث في انتخابات 2005 في دائرة دمنهور، ولم يفلح معها شهادات بعض القضاة المنصفون والشجعان!؟. وتتم مسرحية شعارها: (تحدثوا وقولوا ما تحبون، ونحن سننفذ ما نحب)!!!؟. فهذا هو الشعور الأليم بالعجز الذي سيلاحقني في أحلامي وفي يقظتي حتى جولة أخرى أحلم بها وتحلمون بها: "قل عسى أن يكون قريباً". [الإسراء51] مع تحيات وأمنيات وأحلام الحالم المسكين: د. حمدي شعيب E-Mail: [email protected]