القيادة الوطنية علامة تاريخية تحفل بها صفحات التاريخ ، وتظل شمعة مضيئة في ذاكرة الأمة ، يتدارسها الأجيال ليستهلموا منها روح القيادة والبطولة في الأوقات التي تحتاج فيها الأوطان لإعادة صناعة قائد جديد ، لإنقاذ الوطن من محنة ألمت به ، أو النهوض من عثرة وقع فيها ، ويعيد للوطن مجده ، وللأمة ازدهارها ، ويعاد كتابة صفحة جديدة مشرقة في تاريخ الوطن . ما تمر به مصر ليس بغريب ولا جديد على أي دولة تمر بمرحلة انتقالية ، تسعي خلالها للتحول من مرحلة تاريخية إلى مرحلة آخري أكثر حرية وعدلا وديمقراطية ، وتحفل صفحات التاريخ بنماذج لدول خاضت مراحل مشابهة أو أكثرة صعوبة وقسوة من تلك التي تمر بها مصر ، فجمهورية أذربيجان ، تعرضت خلال فترة تحولها وانتقالها من تحت حكم اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية السابق إلى مرحلة الاستقلال والديمقراطية والحرية ، إلي حالة من المخاض العسير ، اتسمت بالتخبط والصراع بين جبهات متعددة داخل البلاد ، وما زاد المشهد تعقيداً تعرض أذربيجان لعدوان أرميني احتل نحو خمس مساحتها ، وكادت البلاد علي حافة الانزلاق إلي حرب أهلية . لا تُستثنى جمهورية أذربيجان من الظاهرة التاريخية في صناعة القيادة الوطنية الفذة ؛ فتلك الدولة شأنها شأن الدول ذات الحضارة العريقة ، مرت بفترات وعهود من الازدهار والانكسار ، فمنذ فجر التاريخ وهذا الجزء من أرض القوقاز ، استطاع أن يسجل في صفحات التاريخ أسماء قيادات حملت على عاتقها قيادة شعبها إلي التقدم والرقي والازدهار . وفي العصر الحديث ومنذ تأسيس جمهورية أذربيجان الشعبية كأول جمهورية ديمقراطية في الشرق في 28 مايو 1918 ، مرت أذربيجان بالكثير من المحن والشدائد ، نظراً لأطماع القوى الدولية المحيطة بها ، وتأمرها على تلك الدولة الوليدة ، التي لم يدم استقلالها أكثر من ثلاث وعشرين شهراً ، حتى كانت جحافل القوات السوفيتية الشيوعية قد قضت على أحلام الجمهورية الناشئة ، وتحت وطأة وقسوة الحكم السوفيتي الشيوعي الذي استمر لأكثر من سبعين عاما ، خرج زعيم أذربيجان القومي " حيدر علييف " ليقود أبناء وطنه نحو الحرية والاستقلال واستعادة عملية البناء والنهضة نحو التقدم والازدهار . بعد انهيار وتفكك اتحاد الجمهوريات السوفييتة الاشتراكية ، كانت الأحداث في باكو تتداعى بسرعة إلى الأسوأ ، بسبب الخلاف السياسي المحتدم ، والاقتتال والصراع بين الأحزاب والقوي السياسية المختلفة على السلطة ، في ظل ظروف الحرب التي شنتها أرمينيا علي البلاد ، واشتداد الأزمة الاقتصادية وتناحر القوي السياسية في الداخل ، وخلال تلك المرحلة العصيبة من تاريخ أذربيجان توجه الشعب بنداء إلى زعيمه " حيدر علييف " لتولي زمام السلطة وإخراج البلاد من تلك الأزمات ، باعتباره شخصية تحظى بالقبول لدى مختلف أطياف الشعب ، ولديه من الخبرات ما يؤهله لقيادة البلاد في هذه الفترة الصعبة والخطيرة ، وقد لبى الزعيم " حيدر علييف " نداء وطنه وشعبه وتسلم زمام البلاد . وفي 15 يونيو 1993 تم انتخاب حيدر علييف ليكون رئيساً لمجلس السوفيت الأعلى لجمهورية أذربيجان ، ومن ثم رئيساً للجمهورية ، وقد نجح حيدر علييف في إنقاذ بلاده من حالة الانشقاق والفرقة والاقتتال الداخلي ، واستطاع توحيد صفوف القوى المتصارعة في البلاد ، واستعادة الوحدة الوطنية بين أبناء شعب أذربيجان بعدما كان الصراع محتدماً علي أشده فيما بينهم ، ومن ثم ابتعدت أذربيجان عن شبح الحرب الأهلية التي كادت البلاد أن تنزلق إليها ، وتهدد وجودها على الخارطة الدولية ، وبفضل تلك الوحدة الوطنية في الداخل استطاع " حيدر علييف " استرداد بعض الأراضي التي احتلتها أرمينيا. ولكنه نظرا للحالة الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد ، والظروف الدولية المحيطة ، لم يستطع أن يكمل تحرير بقية الأراضي المغتصبة ، واضطر بسياسته الحكيمة للموافقة على توقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار مع أرمينيا ، ومن ثم بدأ في إعادة تنظيم الجيش وبناء الدولة في كل قطاعاتها حتى يتمكن من استرداد الأراضي المحتلة . ولد حيدر على رضا أوغلو علييف في 10 مايو 1923 في مدينة ناختشيوان في أذربيجان ، وتدرج في سلم القيادة حتى اِنتُخِب في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني في يوليو 1969 سكرتيرا أول للحزب الشيوعي الأذربيجاني ، ومن ثم ترأس " حيدر علييف " الجمهورية ، وفي ديسمبر عام 1982 انتخب عضوا بالمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ، وعين كنائب أول لرئيس وزراء اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في موسكو . وكان دوره أثناء هذه المرحلة من عمله القيادي حاسما في التطور الاجتماعي والاقتصادي لأذربيجان ، إذا يعود إلى جهوده الفضل في وضع أذربيجان كأحد أكثر جمهوريات اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية ازدهارا ، ولأنه كان المسلم الوحيد في صفوف القيادات العليا في النظام السوفيتي فقد كان يعد صديقا للعالم العربي والإسلامي ، وكان يدعم بقوة قضايا العالم العربي في المحافل الدولية . استقال " حيدر علييف " في أكتوبر عام 1987 من منصبه في المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي احتجاجا على سياسة المكتب ، وارتباطا بالمأساة التي ارتكبتها القوات السوفيتية في 20 يناير 1990 ، وخرج في اليوم التالي للمأساة في مفوضية أذربيجان في موسكو مع بيان يطالب فيه بمعاقبة منظمي ومرتكبي تلك الجريمة ضد شعب أذربيجان . في عهد " حيدر علييف " تم إصدار دستوراً جديداً لأذربيجان ، وجري الاستفتاء الوطني عليه في 12 نوفمبر 1995 ، كجزء من بناء المؤسسات الديمقرطية الواسعة النطاق لأوجه الحياة في أذربيجان ، كما صدرت أيضا مجموعة قوانين جديدة أفضت إلى تغييرات هائلة في النظام التشريعي للبلاد كنتيجة للإصلاحات السياسية ، وحصلت أذربيجان على عضوية منظمة الأمن والتعاون الأوروبي ، وتم قُبول أذربيجان في المجلس الأوروبي ، وانضمت للشراكة في مبادرة سلام حلف الناتو عام 1994 . بعد إرساء الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي تم التغلب تدريجيا على تراجع الإنتاج وحالة الركود الاقتصادي ، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل التطور الاقتصادي لأذربيجان ، فحينما انتخب " حيدر علييف " رئيسا للبلاد عام 1993 ، كانت البلاد تشهد تراجعا كبيراً في إجمالي الناتج المحلي يتراوح ما بين 20 % و23 % ، لكنه استطاع التغلب على تلك الحالة خلال عامي 1994- 1995، وبدأ الاقتصاد في الانتعاش منذ عام 1996، وساعدت الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية على ازدهار الوضع الاقتصادي في البلاد . أقام " حيدر علييف " علاقات قوية مع دول العالم المختلفة بعد أن أصبحت أذربيجان دولة حرة مستقلة وقد كان حريصا على أن يعرض مشكلات بلاده في المحافل الدولية وأن يكسب تأييد دول العالم الحر له خصوصا بالنسبة لقضية " قره باغ الجبلية " ، وأعاد بلاده إلى انتماءها الإسلامي بعدما ظلت طوال الحقبة السوفيتية بعيدة عن تلك الدائرة التي ينتمي شعبه إليها ، وبدأ التعاون المتبادل وبناء العلاقات الثقافية والسياسية والاقتصادية مع الدول الإسلامية . رحل الزعيم القومي لأذربيجان " حيدر علييف " في 12 ديسمبر 2003 ، بعد أن وضع أذربيجان على الطريق نحو تحقيق آمال وطموحات الشعب في الحرية والرفاهية والازدهار ، فالإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية ، والإدارة الفعالة والسياسة الخارجية النشطة ، قد جعلت من أذربيجان قائداً إقليميا وشريكا قويا موثوقا به في العلاقات الدولية ، لتقدم درسا تاريخياً في دور القادة بالنهوض بأوطانهم ، وتسجل أسماءهم في سجلات تاريخها المجيد ، ويتذكر الأجيال سيرة أبطالها وقادتها ليستلهموا الهمة والعزيمة على مواصلة المسير نحو التقدم والرقي والازدهار . تحتاج مصر في تلك المرحلة الهامة من تاريخها إلى تحقيق التوافق ، والعمل مع قيادة تحظي بالقبول لدي مختلف أطياف الشعب ، من أجل بناء مؤسسات الدولة ، والعبور بالبلاد من تلك المرحلة الحرجة ، وتوجيه جل الطاقات إلى البناء والتنمية من أجل تحقيق التقدم واستعادة مصر لمكانتها الرائدة في العالم العربي ومحيطها الإفريقي والإقليمي والإسلامي ، فإذا كانت أذربيجان قد استطاعت تجاوز مراحل الخطر الكبري التي مرت بها البلاد، بفضل جهود أحد قادتها الأوفياء المخلصين ، في وقت كانت فيه أذربيجان تعاني خطر الانقسام والوقوع في حرب أهلية في الداخل ، والعدو الأرميني يتربص علي حدودها في الخارج ، فإن مصر بتاريخها وحضارتها ومكانتها تستطيع تجاوز تلك المرحلة الحساسة في تاريخها الحديث ، وخاصة أن نسيجها الاجتماعي أثبت علي مر التاريخ أنه قادر علي التآلف وتجاوز كل المحن والشدائد. كاتب وباحث في الشئون الآسيوية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.