شكّلت المواجهات التي خاضها الجيش الموريتاني قبل أسابيع ضدّ مُقاتلي ما يُعرف ب "إمارة الصحراء"، التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، أول اختبار جدّي بالنسبة لموريتانيا لاتِّفاق التعاون في مجال محاربة الإرهاب، الذي أبْرِم قبل أشهر في مدينة تَمنراست، جنوبالجزائر، بين أربع دول التي تُعتَبر المتضرّر الأكبر من نشاطات التنظيم وهي: الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر، غير أن الحرب الموريتانية على القاعدة أثبَتت أن التحالف لم ينضُج بعدُ وأن بلدان المنطقة غير جاهزة حتى الآن لخوْض حرب منسّقة ضد التنظيم. ويرجِّح المراقبون في موريتانيا أسباب إحجام الدول الثلاث الأخرى عن مُؤازرة الجيش الموريتاني في مواجهته مع القاعدة، إلى عدّة عوامل ترتبِط بالمصالح الإستراتيجية لتلك البلدان واشتباكات علاقاتها ذات الطابع الحساس، بل أن مقربين من السلطة في موريتانيا، يعتقِدون أن الدول الثلاث التي تُشارك في موريتانيا في "تحالُف تمنراست"، لعبت خلال الحرب أدورا، بعضها سَلبي والآخر كان مُحايِدا، ولكل حكومة منها موقِفها الخاص بها، والذي توضّح القراءة التحليلية للأحداث خلفياته، حيث تتنافَر المصالح الإستراتجية لتلك الدول، مع ما هو مُعلن من ضرورة التوحّد في الحرب على تنظيم القاعدة. الجزائر تبحث للقاعدة عن ملجَإ خارج أراضيها يعتقِد مراقبون في نواكشوط أن الإعلام الجزائري المقرّب من الحكومة، لعِب دورا سلبِيا تجاه الجيش الموريتاني خلال العمليات العسكرية الأخيرة، حيث قالت كُبريات الصحف الجزائرية، إن الجيش الموريتاني يُقْدم على الإنتحار باقتِحامه لمعاقِل القاعدة في شمال جمهورية مالي، بل مضت وسائل الإعلام الدولية إلى نشْر معلومات أسندَتْها إلى مصادر أمنية جزائرية، تتحدث عن "مقتل عشرات الجنود الموريتانيين في المعارك وهزيمة نكْراء حلّت بالجيش الموريتاني على يَد مقاتلي تنظيم القاعدة"، كما صدرت تصريحات غيْر مؤيِّدة للعمليات العسكرية الموريتانية عن بعض كِبار المسؤولين الجزائريين. ويمكن إعادة الموقف الجزائري إلى اعتبارات عديدة، منها أن الجزائر تجِد مصلحة إستراتيجية في بقاء منطقة شمال مالي كملجإٍ آمن لمُقاتلي تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وذلك لدفْع المسلّحين الإسلاميين المُرابطين في جبال الجزائر، إلى الهروب إليها تحت ضغْط ضربات الجيش وقوات الأمن الجزائريين، وإرغامهم على التسلّل نحو المُتَّسع الآمن في صحراء مالي، خارج الجزائر. وما تزال الحكومة الجزائرية حتى الآن تواجه صعوبة في إخراج "إمارة التنظيم" من العُمق الجزائري، حيث يوجَد الأمير "أبو مصعب عبد الودود" وكبار مساعديه في جبال الجزائر، رغم جهود الجيش هناك لطردِهم وإخراجهم إلى شمال مالي، وهو ما تعتقِد السلطات الجزائرية أنه لو تحقّق، فستكون له نتائج تخدِم إستراتيجيتها في المنطقة، منها إبعاد المسلّحين عن أراضيها وتخفيف وطْأة الهجمات والعمليات التي ينفِّذها المسلّحون في العُمق الجزائري، وإقناع المجموعة الدولية بأن التنظيم بات تنظيما إقليميا ولم يعُد مجرّد تنظيم جزائري محلِّي، كما كان في السابق، ممّا يقتضي التّنسيق والمساعدة في محاربته. وهنا لن تجِد دول المنطقة ولا غيرها من الدول المهتمّة بمحاربة التنظيم، بُدّا من اللجوء إليها كصاحبة خِبرة في مجال محاربة الإرهاب، وإسناد زعامة أي حِلف ينشأ في منطقة الساحل ضدّ الإرهاب إليها، وهي زعامة تنشدها الجزائر كمكسَب لها في معركة النفوذ التقليدية، التي تخوضها مع المغرب في المنطقة، وهنا لابد من الإشارة إلى تعمّد الجزائر إقصاء المغرب من "تحالف تمنراست"، بحجة أن المغرب توجد جُغرافيا خارج منطقة الساحل، فضلا عن أن تحوّل التنظيم إلى تنظيم إقليمي في الصحراء، يعنِي وجود تهديد حقيقي لمصالح الدول الغربية في المنطقة، وفي مقدِّمتها فرنسا، كما هو الوضْع حاليا. وهنا، تكون الجزائر قد وجّهت ضربة انتِقامية للغرب، وخصوصا فرنسا، التي تعتَبِر أنها خَذلتْها في معركتها مع الإرهاب خلال سنوات التسعينات، التي عُرفت في الجزائر باسم "العشرية السوداء". يُضاف إلى ذلك، أن نفوذ الجماعة المسلّحة في صحراء مالي، يعني مزيدا من الحضور الجزائري في تلك الصحراء، إذا ما أخَذنا في الحُسبان المعلومات التي تتحدّث عن اختراق قوي لتلك الجماعات من قِبل المخابرات الجزائرية، وهو اختراق يجزِم به عدد من المحلِّلين الغربيين وخبراء مكافحة الإرهاب. هذه الأهداف الجزائرية مُجتمعة، يأتي الهجوم الموريتاني على معاقِل التنظيم في شمال مالي، ليُهدِّد بتقويضها. فحين تُصرّ موريتانيا على أن شمال مالي يجِب أن لا يبقى ملجأً آمِنا لمقاتلي التنظيم ويهاجم الجيش الموريتاني تلك المعاقل، فإن إستراتيجية الجزائر لطرْد المسلّحين إليها، ستكون مهددة بالإنهيار وسيجد مسلّحو التنظيم المضايَقة والملاحَقة في الصحراء المالية، المكشوفة في أغلَبها، فلا يجدون بُدّا من العوْدة إلى الجبال الجزائرية والتمترس فيها والإستِماتة في الدفاع عنها، وليس سِرّا أن طبيعة التضاريس الجبلية في الجزائر تُعطي التنظيم فُرصة للمُناورة والكَرّ والفَرّ، أكثر مما تمنحه ذلك صحراء مكشوفة في غالبها الأعم، ولا تتوفّر على سلاسل جبلية للإحتماء والتخفي والمرابطة. ثم إن إصرار الجزائر على أن تتولّى الزعامة الفعلية للمنطقة، يعني أنها لن تقبل بأي عمل عسكري موريتاني، دون الرجوع إليها والتنسيق معها، وهو ما تصِرّ نواكشوط على رفضه وتعتبِر أن النفوذ الجزائري في المنطقة، ينبغي أن لا يكون على حِسابها وأن الجزائر لا يمكن أن تكون سيِّدة على السياسة الدِّفاعية والأمنية الموريتانية. مالي: القاعدة قضت على المتمرّدين أما مالي، التي اكتفت خلال الحرب الموريتانية على القاعدة، باستضافة المعارك على أراضيها، دون تقديم أي دعم عسكري أو لوجيستي، فإن قراءة نواكشوط لموقِفها تقُود إلى نتيجة مُؤداها أن لها هي الأخرى مصالح إستراتيجية في وجود القاعدة بأقاليمها الشمالية. فالتنظيم يُحجم عن القيام بأي عمل مسلّح ضد المصالح المالية وحتى المصالح الغربية على الأراضي المالية، حيث لم تسجَّّل أي حادِثة اختِطاف لمواطن غربي على الأراضي المالية، باستثناء الفرنسي "بيير كامات"، الذي اختُطِف من مدينة "منيكا" بشمال مالي يوم 24 ديسمبر 2009، وهي العملية التي ساقت لها القاعدة عدّة مبرّرات، باعتبارها عملية استثنائية، منها أن "بيير كمات" كان - حسب زعمها - ضابطا في المخابرات الفرنسية، اختار الإقامة في شمال مالي لتقصِّي أنباء القاعدة. وثانيها، أن الجيش المالي بدأ في تلك الفترة مُناورات مع الأمريكيين، بهدف التدريب على محاربة الإرهاب، وهو ما اعتبرته القاعدة مُوجَّها لها، فقرّرت تنفيذ عملية استباقية وانتقامية في آن واحد، باختطاف "بيير كامات"، لكنها منحَت الحكومة المالية فُرصة الوساطة لتحريره وإعادته إلى بلده. أما العمليات المسلّحة التي نفَّذها التنظيم في شمال مالي، فكانت اثنتان فقط. أولاهما في يونيو 2006، وتَمّ فيها اغتيال الضابط "لمانة ولد البو"، المنتمي إلى إحدى القبائل العربية في شمال مالي، وبرّرت القاعدة قتْله بأنه مسؤول عن اعتقال عدد من عناصِرها ومُضايقتها في شمال مالي. أما العملية الثانية، فقد قتَلت فيها القاعدة عددا من الجنود الماليين، بعد أن نصَبوا كمينا لقافلة من المسلّحين التابعين للتنظيم، لكن قيادة "إمارة الصحراء" سُرعان ما أصدرت بيانا بعد العملية، قالت فيه إنها لا تسعى للحرب ضد الجيش المالي، ودعت الرئيس المالي آمادو توماني توري إلى كفّ بأسه عنها وتركها تخوض حربها ضدّ من أسمتهم ب "الصليبيين وأعوانهم". ولجمهورية مالي مصالح في وجود القاعدة في صحرائها الشمالية، منها أن سيْطرة القاعدة على تلك المناطق، أدّت إلى انحِسار تمرّد الطوارق فيها والقضاء بشكل شِبه نهائي على حركات التمرّد، التي ظلّت لسنوات طويلة خَنجَرا في خاصِرة الدولة المالية وكبَّدتها خسائر كبيرة في مواجهات دامية مع المتمرِّدين الطوارق، الذين اشتبكوا عدّة مرّات مع مقاتلي القاعدة، كان آخرها سنة 2006، وقد خسِر المتمرِّدون الطوارق عددا من عناصرهم في تلك الاشتباكات، فجنحوا إلى السِّلم والتسليم بالواقع الجديد في المنطقة، فضلا عن أن وجود القاعدة في الصحراء المالية، أسكَت الأصوات التي كانت تطالِب بمشاريع التنمية هناك، فبات لدى الحكومة المالية مبرِّر واضح لوقف تلك المشاريع أو عدم البدء فيها أصلا، بحجّة عدم الاستقرار في المنطقة ووجود خطر الإرهاب فيها، ثم إن السكان وجدوا في حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة، منذ سيْطرت القاعدة على مناطق شاسِعة منها، مَنفَذا للحصول على لُقمة العيش عبْر نشاطات التهريب التي ازدهرت هناك، سواء تعلّق الأمر بتهريب المخدِّرات أو البضائع الأخرى وحتى السيارات المسروقة وغيرها. وقد وفّرت القاعدة لنشاطات التهريب جوّا مناسبا، حيث دخلت في تفاهُمات، وأحيانا تحالفات، مع عِصابات التهريب، التي باتت جُزءً من إستراتيجية التنظيم في المنطقة، حيث تتعاون معه في توفير السلاح والمؤونة، وحتى في اختطاف الرعايا الغربيين وبيعهم لعناصر التنظيم، كما حصل مع الرّهائن الإسبان، الذين اختطفهم أربعة مهرّبين من الأراضي الموريتانية نهاية شهر نوفمبر عام 2009 وباعوهم للقيادي في تنظيم القاعدة "خالد أبو العباس"، الملقَّب ب "لعور"، وتمّ الإفراج عنهم بعد ذلك بأشهر مقابِل مبلغ مالي تَراوَح بين 6 و7 ملايين يورو، وإطلاق سراح أحد المهرّبين المشاركين في اختطافهم. كما أن الشمال المالي موطن للقبائل العربية والطوارقية، وكِلاهما على عَداوة تقليدية مع الحكومة المالية، وتتَّسم علاقتهما بباقي مناطق مالي بالحساسية، خصوصا القوميات المُسيطرة على السلطة المركزية في باماكو، بل إن مآرب إستراتيجية، أخرى تتَّضح جلِيا حسب المحلِّلين في نواكشوط في ترحيب حكومة مالي بتوغُّل الجيش الموريتاني في أقاليمها الشمالية لملاحقة القاعدة. فقد ظلّت هذه الأقاليم في العقود الماضية تتّخذ من موريتانيا سَنَدا لها في مواجهتها مع الحكومات التعاقبة في باماكو، نظرا للبُعد الديموغرافي والثقافي والتاريخي للعشائر العربية في موريتانيا، لذلك، شكّلت موريتانيا الشعبية عَلَنا، والرسمية خفية أحيانا في العقود الماضية، سَندا لحركات التمرّد العربية والطوارقية في شمال مالي. واليوم، تسعى مالي لجرّ الجيش الموريتاني إلى مناطق تلك العشائر والإصطِدام بمصالحها، التي تعتمد أساسا على نشاطات التهريب والعلاقة مع القاعدة، وحينها، سيتحوّل الجيش الموريتاني من حليف إستراتيجي تقليدي لتلك العشائر، إلى عدوٍّ جاء لقطع الأرزاق ومُلاحقة المهرِّبين والأصدقاء الجُدد (القاعدة). النيجر: ابتِزاز لحماية المصالح الفرنسية كما أن للنيجر مبرِّراتها، الإستراتيجية والواقعية، لتجنُّب الدخول في مواجهة مع القاعدة، وفي مقدمة تلك المبرّرات، قُدرة القاعدة على وضْع حدٍّ لحركات التمرّد، التي يقف وراءها مسلَّحون من الطوارق، يتّخذون من شمال مالي وشمال وغرب النيجر مسرحا لتحرّكاتهم ونشاطاتهم، وهؤلاء المتمرِّدون هم عَدُو "نيامي" التاريخي، ومنذ أن وصلت القاعدة إلى الصحراء واستقرّت في شمال مالي وقُرب الحدود مع النيجر، قضت على الظهير الذي اتَّكَأ عليه متمرِّدو الطوارق في النيجر، ثم مدّت يدها نحو الصحراء النيجرية، فسيطرت على أجزاء كبيرة منها، فكان أن أبعَدت منها أي سلاح غيْر سلاحها، فكفَّت بذلك الحكومة النيجرية عن قتال المتمرّدين، الذين كبَّدوا الجيش النيجري في السابق خسائِر فادحة. ثم إن وجود القاعدة في الصحراء يشكِّل تهديدا للمصالح الكُبرى لفرنسا في مناجم اليورانيوم شمالي النيجر، وهو ما أعطى الحكومة في "نيامي" فرصة للمُناورة على الفرنسيين، بحيث باتت تبتَزّهم وتطلُب منهم مزيدا من الدّعم والتمويل، بحجّة توفير الأمن للمصالح الإستراتيجية الفرنسية، التي تُعتبَر، بالنسبة للفرنسيين، مصالح سِيادية أكبر من أيّ تهديد، وينبغي أن لا تبقى لُقمة سائغة لأي قوة أخرى. لذلك، شكَّل التهديد الإرهابي بقرية حلوبا، تستدرها الحكومة النيجرية لاستجلاب مزيد من التمويلات من فرنسا، بحجّة الحفاظ على الإستثمارات الفرنسية. السكان المحلِّيون.. تاريخ يستدعي القاعدة وبالإضافة إلى ما تقدَّم، فإن لسكّان صحراء شمال مالي وفي صحراء النيجر، مآرب أخرى في وجود القاعدة في مناطقهم. فقد أبْعَد عنهم خطر تسلّط حكومات باماكو ونيامي، وهو تسلّط تاريخي وعداوة تقليدية، ولَّدتها عقود من الحروب والتنافر، قام خلالها الجيشان، النيجري والمالي، بإبادة مئات السكان وتدمير القُرى وحرقِها، بحجّة محاربة المتمرِّدين من العرب والطوارق في المنطقة، وعاثت جيوش البلديْن فسادا وتخريبا في تلك المناطق، التي انتقمت من سكّانها، بحجّة احتضانهم للتمرّد، وحين يجد السكان أنفسهم بين سلاح القاعدة وسلاح حكومتَيْ بامكو ونيامي، فإنهم لن يتردّدوا في اختيار سلاح القاعدة وسيْطرتها في وجْه عدُوّ تأصّلت خصومته وأخذت أبعادا تاريخية وعِرقية وجغرافية. فضلا عن أن القاعدة كما تقول مصادِر محلية في المنطقة، تدفع بسخاء للمُتعاونين معها ولا ترحم المُعادين لها، وبريق الدولارات التي أخذتها عنوة من الدول الغربية كفدية عن الرهائن، يسخِّر جزءً كبيرا منها لكسب وِدِّ سكان المنطقة، عبْر منح شيوخ العشائر ومسؤولي الحكومة المالية في المنطقة، هدايا وأموالا تجعلهم يروْن مصالحهم في وجود القاعدة، أكثر مما يروْنها في وجود غيرها. المصدر: سويس انفو