مثل قرار وزارة الإعلام بإغلاق العديد من القنوات الإسلامية وعلى رأسها قناة الناس وصفا، وإنذار المجد والفجر زلزالا مدويا في عصر السموات المفتوحة الذي روجت له الوزارة كثيرا في عهد وزيرها الحالي أنس الفقي والسابق صفوت الشريف. فرغم زحمة القنوات الفضائية والأرضية العربية على الأقمار الرئيسية وهي بالمئات بل ربما دخلت الآن في خانة الآلاف إلا ن العديد من القنوات الإسلامية استطاع أن يحجز مكانة متميزة ، واستطاع أن يصل لفئات وقطاعات واسعة، وربما كان هذا هو سر الهجمة عليها فحكومتنا تخشى دائما الالتفاف الجماهيري حول داعية أو سياسي أو تنظيم أو حزب أو مؤسسة فتعمد لتفريق هذا الحشد، الذي تحاصرها الهواجس دوما بأنه قد ينقلب ضدها حتى وإن كان معها أو كان حياديا في وضعه الراهن. سمحت وزارة الإعلام بظهور القنوات الإسلامية في البداية، وتركتها تعمل بعد ذلك، لأنها لم تمثل خطرا محدقا بالنظام،بل ربما أرادت الاستفادة منها في تسويق بعض المفاهيم حول طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه، كما أن تلك القنوات كانت تدرك من البداية الحساسيات الحكومية فحرصت على تجنبها وخصوصا التعاطف أو الارتباط بجماعة الإخوان المسلمين، أضف إلى ذلك أن وزارة الإعلام ممثلة في إدارة النايل سات كانت في منافسة على السموات المفتوحة مع أقمار أخرى بعضها يبث من المنطقة العربية وبعضها من خارجها، وأرادت ان تكسب هذه المعركة ، وان تعظم عوائدها المالية من تأجير مساحات البث الفارغة على قمرها. لكن المواجهة المفتوحة الآن على الأرض بين النخبة الحاكمة والتيار الإسلامي انتقلت إلى الفضاء، حيث نجحت العناصر العلمانية المتطرفة المرتبطة بالنظام في إقناعه بأن وجود هذا القنوات يمثل رافدا مهما للتيار الإسلامي حتى وإن نأت تلك القنوات بنفسها عن السياسة، كما أن مشايخ المؤسسة الدينية الرسمية ( وهي الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء) شعروا بالغيرة بسبب إقبال الناس على مشايخ الفضائيات الإسلامية والانصراف عنهم، وكان الضلع الثالث في المثلث المعادي هو المؤسسة الدينية المسيحية التي شكت من البرامج الدينية التي تناقش العقيدة المسيحية، ومن هجوم تلك القنوات على بعض مواقف الكنيسة في الأحداث الأخيرة خصوصا في حادثة كاميليا، من هنا اجتمعت تلك القوى على هدف واحد هو التصدي لهذه القنوات، وكان لها ما أرادت. الزلزال الذي ضرب القنوات الفضائية وقعت منه موجتان حتى الآن، الأولى كانت قبل أسبوع بالضبط وشمل أربعة قنوات تابعة لشركة واحدة على رأسها قناة الناس والحافظ وخليجية والصحة، أما الموجة الثانية والتي كانت أكبر من سابقتها فقد شملت وقف 12 قناة على رأسها صفا مع إنذار 20 قناة أبرزها المجد والفجر، إضافة لقنوات أخرى شيعية وفنية و"مهلبية" . القرار الثاني بالذات بدا متوازنا إذ أنه لم يركز على القنوات الإسلامية فقط كما حدث في القرار الأول، بل شمل قنوات إباحية، وقنوات دينية شيعية متطرفة، وقنوات تجارية، ولكن توقيت القرارين المتزامن مع بداية حملة الانتخابات البرلمانية ومن بعدها الرئاسية ، وضعهما ( أي القرارين) في دائرة الشك، إذ بدا أن الحكومة القائمة وفي إطار حربها المكشوفة على جماعة الإخوان وخططها الحازمة لمنع فوز مرشحي الجماعة في الانتخابات، أرادت أن تطلق بعض الطلقات التحذيرية في الهواء بهدف بث الرعب في القلوب، ونشر اليأس في النفوس، حتى يتيقن الجميع أن الحكومة قوية، وأنها ستفعل ما تريد في الانتخابات وبالتالي لا داعي للذهاب إلى صناديق الانتخابات، ولا داعي للدفاع عن تلك الصناديق. قد يقول البعض إن هذا التحرك الحكومي جاء بهدف مواجهة تصاعد نذر الفتنة الطائفية، مع اتهام هذه القنوات بالمشاركة في ذلك، - ورغم قناعتي أن خطاب هذه القنوات فيما يخص ملف الوحدة الوطنية كان بحاجة إلى بعض الضبط - إلا أنني أرى أن اللجوء إلى الغلق بشكل مباشر هو نوع من التعسف في استخدام الحق، فقد كان بإمكان وزير الإعلام ومن هم دونه أن ينظموا سلسلة من اللقاءات الحوارية مع مسئولي تلك القنوات لإفهامهم حساسات الموقف وتعقيداته، وأنا واثق أن مسئولي تلك القنوات كانوا سيتجاوبون سريعا مع نتائج تلك الحوارات والتوجيهات، فهم ليسو في خصومة مع النظام، لكنهم لا يتمتعون بحس سياسي عال يستطيع تمييز الخطوط الحمراء والخضراء. تحرك وزارة الإعلام بهذه الطريقة العنيفة يعكس ميلا متزايدا من السلطة لاستخدام القوة سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، ويعكس حالة من الهلع وعدم الثقة في النفس ، أو القدرة على تحقيق الأهداف عبر الحوار الديمقراطي، كما يعكس تنافس الوزارات والهيئات الرسمية في إظهار قوة ولائها للنظام، ومسارعتها لفعل ما تعتقد انه سينال الرضا والقبول، بينما هي في الحقيقة تزيد رقعة أعداء النظام. كنت أتحفظ كثيرا على لغة بعض المشايخ، الذين يقدمون برامج على تلك الفضائيات الإسلامية، حيث كان اغلبهم يتبنى أكثر المواقف تشددا في المسائل الفقهية المختلفة، ويدعي أن هذا هو الموقف الصحيح الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم بينما كانت المسائل المطروحة تحتمل أكثر من موقف فقهي، وهو تشدد لا يراعي مبدا التيسير على الناس في دينهم، أو على الأقل طرح الإجتهادات المختلفة في المسألة الواحدة مع ترك حرية الإختيار للناس، كما أنني كنت أتحفظ على التلاسن المذهبي والطائفي عبر هذه القنوات والذي كان من الممكن حال تصاعده ان يقود لحرب دينية إسلامية بين السنة والشيعة، ناهيك عن الحرب الأهلية بين المسلمين والمسيحيين، ولكنني مع ذلك أشهد لهذه القنوات انها ساهمت في تأكيد الهوية الإسلامية للمجتمع المصري والمجتمعات العربية الأخرى، وأنها قدمت بديلا إسلاميا – وإن لم يكن ناضجا تماما – في مواجهة القنوات التغريبية والتخريبية الأخرى. أتمنى أن تكون قرارات وزارة الإعلام مجرد هزة لضبط الأوضاع، ولا تتحول إلى إغلاق دائم لتلك القنوات التي يعمل بها المئات بل الآلاف من المصريين. [email protected]