تحدثنا في المقال السابق عن مقدمات الهجرة، ونستكمل الحديث في هذا الموضوع.. فبعد أن قرر صناديد قريش القضاء على محمد عليه السلام ومن ثم القضاء على شأفة الإسلام من جذوره، من خلال الخطة الشيطانية التي وضعوها لقتله (صلى الله عليه وسلم) قبل أن تقوم لدعوته قائمة، وتفريق دمه بين القبائل حتى لا يستطيع بنو هاشم أن يأخذوا له بثأر، أخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) يفكر ويدبر ويخطط للهجرة، ويبدو أنه كان يخطط لها منذ فترة ليست بالقصيرة.. وذهب (صلى الله عليه وسلم) إلى أبي بكر الصديق في وقت الظهيرة، في تحرك غير معهود له في مثل هذا الوقت؛ ليعلمه بالهجرة، وأعلم عليا بن أبي طالب بها، وطلب منه أن يبيت مكانه، ويتغطي بغطائه، تمويها وتغطية على المشركين، ولكي يرد الأمانات إلى أصحابها، وكان رسول الله بمكة الحافظ الأمين وليس أحد عنده شيء يخاف عليه إلا وضعه عنده (صلى الله عليه وسلم) لصدقه وأمانته.. وهنا يتجلى الأدب العالي والحب الجم من على – كرم الله وجهه- للرسول، ويقول له: نفسي لك الفداء يا رسول الله.. ولم يخف عليٌّ من المشركين ولم يخش على نفسه من القتل في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار، فداء لدين الله ولرسول الله (صلى الله عليه وسلم).. ومن باب صغير يشبه النافذة في منزل الصديق رضي الله عنه، خرج هو وصاحبه في جوف الليل، ولم يكن يعلم بخروج النبي (صلى الله عليه وسلم) حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر.. وحينما خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من بيت أبي بكر كان يعلم علم اليقين أن قريشا ستجد في طلبه هو وصحبه، وأن أنظارها ستتجه صوب طريق المدينة الرئيس (نحو الشمال) ؛ فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يموه عليهم ويخدعهم فاتخذا هو وصحبه طريقا معاكسا له تماما، حيث سارا في اتجاه الجنوب نحو اليمن، وظلا يسيران خمسة أميال على أطراف أقدامهما -حتى لا يرى أحد من الأعداء آثار الأقدام فيصل إليهم- من لحظة خروجه إلى أن وصل إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى.. وهذا الجبل خلده التاريخ بتشريف النبي (صلى الله عليه وسلم) له، بالصعود عليه والمكث في غار بأعلاه يسمى غار ثور.. وكانت أسرة أبي بكر جميعها مسخرة ومهيأة بكل طاقاتها؛ لدعم الهجرة، بل كانت بمثابة غرفة عمليات للإمداد والتموين، لمد الرسول ومن معه بالخدمات "اللوجيستية، والمخابراتية".. وغيرها مما تخدم تحرك سفينة الإسلام إلى بر الأمان، فكان ابن أبي بكر يمدهما بأخبار قريش ليلا، وكانت أسماء تمدهما بالزاد والماء، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يقوم بمحو آثار الأقدام بالأغنام والإبل؛ تعمية وتمويها على المشركين.. والعجيب أن يستأجر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عبد الله بن أريقط وهو غير مسلم؛ ليكون دليل الركب من غار ثور إلى المدينةالمنورة، وليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين.. هذا الرجل الذي ذهب إليهما بالراحلتين بعد أن سكن البحث عنهما، وأقام بمكة كل المدة التي مكثها النبي في الغار أمينا على السر حفيظا عليه.. وشاءت إرادة الله أن يحفظ محمدا وصحبه في هذا الغار بخيوط العنكبوت، وأن يسير محمد ومن معه بسفينة الإسلام إلى المدينةالمنورة؛ لينتقل بهذه الرسالة الخالدة من الوادي الضيق، إلى المدينةالمنورة.. تلك المدينة التي انتقلت الدعوة من خلالها إلى مرحلة العالمية.. وفي هذه البقاع التي نورها الله تعالى برسوله (صلى الله عليه وسلم).. استطاع وبمجرد استقراره فيها أن ينظم علاقة الإنسان بربه من خلال بناء مسجده (صلى الله عليه وسلم) في هذا المكان الطاهر، ذلكم المسجد الذي كان مركزا للقيادة العامة للدولة الإسلامية.. وكان مدرسة وجامعة لمحو الأمية وتعليم الناس.. وكان معسكرا لتجهيز الجيوش وشحنها بالقوة الروحية والمعنوية.. وكان مركزا للشورى والديمقراطية واحترام حرية الفكر والتعبير والاعتقاد، بل كان مركزا تجلى فيه احترام النبي (صلى الله عليه وسلم) لعقول أصحابه الكرام.. كما كان مقرا للقضاء بين الناس.. كما استطاع النبي (صلى الله عليه وسلم) أن ينظم علاقة الناس بعضهم ببعض من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والمؤاخاة والصلح بين الأوس والخزرج، بعد الحروب والصراعات التي استمرت بينهما سنوات مديدة وخلفت أعدادا كبيرة من القتلى وأصحاب العاهات.. كما استطاع (صلى الله عليه وسلم) أن ينظم علاقة المسلمين بغير المسلمين، من خلال الوثيقة (دستور المدينة) تلك الوثيقة الخالدة التي حددت أسس العلاقات الدولية بين المسلمين وغير المسلمين.. فحددت حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وواجبات المسلمين نحوهم من حيث حماية أنفسهم وأموالهم ومعتقداتهم وغيرها، كما حددت التزاماتهم نحو الدولة التي يعيشون فيها.. ومنها استطاع صلى الله عليه وسلم، أن يرد كيد المنافقين والمشركين الذين أردوا أن يقضوا على شأفة الإسلام منذ بدايته.. وأن يرسي القواعد المثالية -التي يجب أن نباهي بها الدنيا- في آداب الحروب، ومعاملة أسرى الحروب.. وفيها دخل الناس في دين الله أفواجا.. ومنها أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) رسائله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد.. ومن المدينةالمنورة استطاع أن ينشر نور الإسلام وهدي الإسلام في كل مكان من أرض الله.. وللحديث بقية••
* الباحث والمحاضر في الفكر الإسلامي - المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية