بعد عدة عقود من صراع العلمانيين والإسلاميين حول أسباب التخلف التي عطلت العقل العربي عن استكمال دوره الحضاري في مسيرة الإنسانية عبر التاريخ , حتى صار هذا العقل العربي في الوضع الراهن يبدو للكثيرين بأنه عبء على هذا العالم , فهو لم يعد يسهم في عملية البناء التقني والمعرفي والإبداعي كما كان يفعل من قبل , بل أصبح مجرد متلق تابع أسير لكل ما هو غربي , وبعبارة أخرى , صار مجرد سوق لترويج السلع الغربية التي لم تعد قاصرة على المخترعات الحديثة فقط , بل وتعدت ذلك إلى الأفكار والتصورات والمذاهب والرؤى والفن , وهو بالتأكيد أمر حتمي , بسبب ثورة الاتصالات الحديثة , لكن الأزمة الآن أننا استغرقنا من الوقت ما يكفي لتجاوز صدمة التراجع الحضاري , والتقاط الأنفاس , واستعادة الوعي مرة ثانية لكي نبدأ في مرحلة اللحاق بقافلة الإنسانية التي تجاوزتنا بكثير , لقد مر أكثر من قرن من الزمان على هذا الصراع بين ما يسمى بين المجددين والمحافظين أو العلمانيين والإسلاميين , والنتيجة هي أننا مازلنا ندور في ذلك الفراغ الوهمي , ونمارس كل أنواع الاستنزاف والتآكل الذاتي دون أن ينجح أي فريق في أن يضع معالم للأمة يمكنها أن تحظى بقبول عام لكي تتحرك قاطرة التقدم والبناء . لقد كانت الأزمة باختصار هي غياب النخبة الحقيقية التي تمتلك قدرا من الوعي وقدرة على الفعل لكي تحدث التغيير المطلوب في بنية العقل العربي , لكن ولسوء حظنا أن تلك (النخبة التاريخية ) لم تكن مؤهلة بما يكفي , فتحول الصراع من البحث في الكليات والقضايا الكبرى إلى إثارة قضايا جزئية وهامشية انتهت إلى ذلك المشهد العبثي والمسرحي الذي قامت به بعض النسوة وعلى رأسهن هدى شعراوي حينما خلعن الحجاب ووطئنه بأقدامهن بدعوى أن ذلك بداية التحرر ! , ولا شك أن ذلك نوع من التخلف والهذيان الفكري الذي لا زلنا نعاني من آثاره حتى الآن , حتى وصل الأمر إلى قيام بعض الكاتبات السطحيات المتخلفات اللائي ليس لهن رصيد علمي أو معرفى سوى هذا الضجيج الإعلامي الأبله في محاربة الحشمة والفضيلة ومهاجمة النقاب , وقد توج الأمر بقيام بعض الأحزاب العلمانية بالدعوة إلى اليوم العالمي لخلع الحجاب ! هذا إذن يلخص أزمة هذه الأمة أنها وقعت أسيرة في أيدي الجهلاء الذين اختصروا العلمانية في حق الحصول على قبلة في الطريق العام , وحق شرب الحشيش والدخان على الأرصفة , على الرغم من أن القيم الحقيقة للعلمانية هي العدالة والمساواة ومحاربة الخرافة والحرية (حرية التفكير – والتعبير ) سياسيا ودينيا وليس فقط حرية التقبيل في الطريق العام . وها نحن تركناهم يمارسون حرياتهم المزعومة , ومع ذلك فالأمة لا تزال تعاني من التخلف والتطرف والاحتراب. وعلى الجانب الآخر , لم يكن الإسلاميون أحسن حالا من هؤلاء العلمانيين الذين يعانون من قصور في الفهم حد المرض , فاختزلوا الإسلام في الحجاب واللحية , ودارت معارك طاحنة حول أشياء بعيدة كل البعد عن شروط العلم والحضارة . إن الكارثة الكبرى التي احدثها العلمانيون العرب في تشويه بنية الفكر العربي ليس من السهل تجاوزها خلال السنوات القادمة , وبخاصة أنها كانت مدعومة بتاريخ تافه من السينما المصرية التي غزت كل العقول والبيوت , والتي جعلت مفهوم الحرية قاصرا على حرية الجنس وإقامة العلاقات بين الرجل والمرأة , دون أن يقوم أدعياء الفن هؤلاء بتقديم أفلام تنبش في أعماق مشاكل التخلف والتراجع الحضاري . وباختصار , فإنه لا علاقة لأي دين بالتقدم , ويكفي أن نراجع خريطة أديان العالم لنكتشف أن العلم والحضارة لا دين لها , ولكنها في حاجة إلى شروط أخرى .إن أزمة العلمانيين أنهم يصرون على جعل الإسلام هو سبب التخلف , وفي حقيقة الأمر فالعلمانيون ثم الإسلاميون هم سبب تخلف الأمة!