لعل دلالات الرمزية المثيرة لشخصية المفكر الراحل محمد أركون لم تكن لتتجسد لتعيد قراءة سيرته الفكرية بهذا التركيز والاختصار المهم الذي كرسته قضية غيابه في توقيت دقيق، لولا أهم مشروع رعاه تاريخياً ودافع عنه، وارتبط به، وقد رحل وهو لا يزال أي المشروع يضرب قضية الحريات الإنسانية، وليس الإسلامية فقط بحسب تيار عريض من مثقفي أوروبا، وهو منع المنقبات، وحقهم في الخروج للحياة العامة المطلقة، بما في ذلك حديقة منزلهم مع التضييق التدريجي الذي انطلق مع قرار الحظر لقضية الحجاب، والتي تتصاعد في أركان العنصريين الفرنسيين والأوروبيين وكان الرئيس سركوزي ولا يزال أحد أقطابهم للدرجة التي وصلت إلى أن ينتقدهم في صوم رمضان، ويقترح عليهم كوباً من القهوة والفطيرة الفرنسية صباحاً، ويعقبها بفتواه بأنها لن تفسد صيامهم!! في دلالة إلى حجم التغوّل في إسقاط أي حقٍ للمسلمين في فهم دينهم بمصادره الأصلية وتَدخُّل الاستبداد الغربي الحديث الذي لم يعتذر حتى الآن عن قتل مليون شهيد واحتلال فرنسا للجزائر اعتذاراً صريحاً. كان الراحل محمد أركون عضواً مركزياً في اللجنة التي صاغت لمجلس الشيوخ الفرنسي المشروع ودافع عن القرار في وسائل إعلامية عديدة، والمهم هنا هو ما مثّله محمد أركون من سلسلة التفكير لتيّار مهم وفاعل في علاقة الشرق بالغرب، وهو ليس مقترناً بالعلمانية الإلحادية أو العلمانية التشريعية؛ فكِلا المسارين كانت لهم رموزهم التي انجرفت إلى محاكاة الغرب التطبيقية، لكن كانت هناك رموز تحترم خلاصات علمية وتاريخية، وتقف عند مسلمات التجربة الإنسانية في قضية الموقف من الحريات العامة والموقف من الاستقلال الوطني والاعتراف بأن أوروبا المسيحية العلمانية كانت لها دورتها للنهضة والثقافة لذاتها المسيحية، في حين كانت تحمل أيدلوجية وإطاراً استعمارياً، سواء كان عسكرياً أو استبدادياً تفرضه على مستعمراتها السابقة، أو ما تصل إليه من نفوذ في العالم الثالث، هُنا يبرز لنا المفكر أركون المعادي للاستقلال الإسلامي الناهض ذاتياً بحراكه الفكري والثقافي لبناء ثقافة الحرية المزدوجة للخلاص من الاستبداد الداخلي والاستعمار الدولي، وكان تركيز أركون على نقض التاريخ الإسلامي هو محاولة للهروب من جدليات الفلسفة الحضارية التي يتحاكم التاريخ إليها وفقاً للمنهج المُدوّن وللتجربة السياسية والإنسانية، كما أرادها المنهج المقصود لا كما حرّفَها المستبدون أو المتخلفون عن تقدمية الفكر الرسالي لحياة الإنسان ونهضته الروحية والمادية لفكر الاستخلاف. وأركون يُمثل جيلاً قديماً مهماً لقابلية الاستعمار نقل فكرته للجيل الذي أوصلته زلزلة 11 أيلول إلى مركزية الرعاية الدولية لخطابه؛ كونه مكتمل الهزيمة النفسية، متطلعاً بصورة شاملة للالتحام مع العالم الغربي الاستبدادي متطوعاً ذاتياً وعن قناعة بالتعاطي معه والتعاون معه على هذا الأساس، أساس الإيمان بالفكرة والعقيدة التي ترى الوطن العربي مقابل الغرب وطن جغرافيا لا جغرافيا وطنية، والمقصود أن هذا التيار الذي التقى نماذج من هذا الطراز ومنهم أركون قبل رحيله يرى أنّ قضية التكافؤ في الحريات وحقوق النهضة والعدالة الدولية بل ومقررات الديموقراطية المطلقة التي تعطي الحق لشعوب العالم العربي إدارة ثروتهم ومصالحهم وفقاً لحقوقهم، كما هو في العالم الغربي الاستبدادي، مقراً لشعوبه، هي قضية مقابلة مرفوضة من هذا الجيل المتبني لموقف العلمانية المعادية للإنسان الآخر، كون أن فكرة أركون تُشخّص حالة عنصرية ووطناً وصياً على باقي شعوب العالم؛ لأنّ الدين الرسالي ومنهجية الروح والجمع بين حضارة الإنسان المادية وقيامه برسالة الروح التي هي قصة هذه الحياة وكل ما تكتنزه من أخلاقيات وإعلاء للإنسان هي مُدانة ومرفوضة من هذا الفكر، ويسعى للاستدلال التاريخي المنتقى والمقتطع لنقض اليقين الفلسفي والحضاري المتفق، وبالتالي فهذه الرقعة الجغرافية لا تعدو أن تكون مزرعة للغرب، على جمهورها أن يخضع لمتطلبات التصنيف بين الغربي المستبد العادل!! لدى هذه المدرسة الفكرية وبين التابع الشرقي أو الجنوبي عربياً كان أم إفريقياً حتى لو كسر ظهره، وأخذ ثروته ونكّل بإنسانيته. وحين نناقش التقاطع المركزي لفكرة محمد أركون لسنا ننفي عنه بالمطلق وجود استنباط أو لغة أو نزع فلسفي يستحق القراءة أو تفصيل نقدي وُفِّقَ في فهمه ضمن حصاده الطويل، ولسنا أيضاً نجعل ذلك في مقام الدفاع عن دكتاتورية النظام العربي وعلاقته الحميمية مع ذات المؤسسة الاستعمارية الغربية، بل هو متورط من الجانبين: جانب استبداده ضد شعبه، وجانب تفانيه في الالتقاء بالمؤسسة التي دافع عنها محمد أركون ومريدي الاستبداد العلماني. لكننا نشير إلى قضية فقه الاستقلال الفكري الحضاري الذي لم ينطلق أو يَردّ الاعتبار للشرق الإسلامي عبثاً في دورتنا الزمنية ونحن نرى الآن تحوّلاً كبيراً لمنصفي الدراسات الغربية فضلاً عن الزحف المستمر من انضمام نخبة ورأي عام غربي مثقف إلى الرابطة الإسلامية، إلاّ لإدراكه الدقيق لهذه الخلاصة الإيمانية والفكرية والحضارية التي لم ينجح محمد أركون ولا مدرسته في إقناع حجاج الغرب الفكريين بالامتناع عن مقصدها وولوج منزلها... وهي في ذاتها أكبر من أن تكون هزيمة لمدرسة أركون، لكنها سبيل حياة وخلاص باتت تندفع في إطارين مهمين: إعادة أصول الفكر النهضوي التحرري الإسلامي للداخل، ورفع الغطاء الديني عن الاستبداد، وفي الإطار الآخر، وعلى الرغم من تكثيف خطاب الكراهية القمعي إلاّ أنه يلتقي إنسان أوروبا بإنسان الشرق لرابطة تكتنفها عدالة حضارية مشرقة تطوف بعدالة ملهمة لسمو الإنسان وخلاص روحه للفوز الكبير. المصدر: الاسلام اليوم