بحسب رؤيتنا يتوجب على مصر وغيرها من البلاد التي تُبتلى بهذه العدوى السياسية أن تبادر قبل أن تفاجأ، وأن تسرع في العلاج قبل أن يداهمها المرض العضال، وما يمكن طرحه ك"عقد جديد" يمكن أن يشكل بداية وطرف الخيط الذي يُخرج الأمة من حالة التأزم والتيبس السياسي المزمن. هذا العقد الجديد نراه يقوم على ثلاث دعامات : الأولى : تدعيم مفهوم المشاركة : الدعامة الأساسية لهذا العقد الجديد هي المشاركة، وبث الشعور بأهمية المواطن في العملية السياسية، وإنه مكون أساس في هذه العملية في مداراتها وأطيافها المتعددة ، وفتح مجال الممارسة السياسية التي تسمح بتداول سلمي للسلطة، فالمناخ السياسي الآسن يسمح بنمو النزعات الانفصالية والطائفية. وانسداد قنوات العمل السياسي السلمي وعدم توفير المظلة القانونية الملائمة ، سيفتح الباب على مصراعيه أمام خيارات العنف والعمل السري الذي يقوض بنيان الدولة وينخر في أساسها. إن وقف الهدر في طاقات الوطن ومقدراته ، مرهون بإعلاء قيمة المشاركة السياسية وإخراجها من الحيز الأمني الضيق إلى فسيح العمل القومي الذي يرى في كل فكر بناء قوة دفع للمجتمع، وفي كل أطروحة مخلصة زاداً ودفعاً للمجتمع في طريق التنمية الذي تخلف عنه طويلا وتنكب طريقه كثيرا. والنخبة السياسية الحاذقة التي تتمتع بشرعية سياسية ، يمكنها احتواء المجتمع والحفاظ على تماسكه وتوجيهه ناحية الهدف المنشود، واستثمار قوة الدفع والحراك السياسي بحيث يكون قوة تخصيب وإنضاج للمجتمع ، وأن تجعل مساره متسقا متوائما مع حاجيات المجتمع بدلا من إيقاد حرب ضروس وتطاحن مهلك لخضراء البلد ويابسها، ولا مستفيد حينئذ إلا المتربص والمتآمر الخارجي. وفي هذا الشأن يقول الأستاذ "علي الصاوي" في مؤلفه "النخبة السياسية في العالم العربي: "... النخبة السياسية هي من النخبة المجتمعية بمثابة القلب من الجسد، ينبض فينمو الجسد بنبضه، ويتعثر فيهتز الكيان الاجتماعي والجسد السياسي في أحواله وفي مستويات أدائه... إن النخبة السياسية أو صفوة القوة السياسية هي القاطرة التي تشد حركة التطور والتنمية إلى مساراتها المتنوعة، فإذا سلكت القاطرة مسارها الصحيح وتمتعت بقوة دفع مناسبة ازدهرت التنمية واستمر التطور" . ثمة تحول مطلوب إذن في صياغة التفكير السياسي الجمعي بجعل الوطن ومصلحته أولا قبل أي شئ آخر، والفصل ما بين مقدرات الوطن ومستقبله وما بين وجود نظام أو زواله. فالوطن ملك للجميع ولا يصح بحال أن تحتكر فئة أيا كان وصفها وسمتها أو تدعى ، أنها بمفردها العين الساهرة على مصلحة الوطن فيما العيون الأخرى متآمرة متربصة أو على اقل غافلة عن وجه المصلحة الحقيقي الذي يتوجب أن يتجه إليه المجتمع. وفي رؤيتنا فان تدعيم مفهوم المشاركة يحتاج إلى مبادرات في عدة اتجاهات منها: 1- إطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية ، والسماح لها بالتواجد في الشارع ، والالتقاء بالعامة ، مما يزيل حاجز الخوف والرهبة من المشاركة والانخراط في الأنشطة السياسية. 2- السماح بهامش اكبر من حرية الصحافة وإطلاقها من الأسر والقيود المفروضة عليها ، مما يفسح المجال للحوار والتواصل البناء بين الاتجاهات والثقافات المختلفة. 3 إفساح المجال لعودة الجامعات إلى سابق عهدها كحاضنة للعمل السياسي الرشيد والانتخابات النزيهة التي يمكنها أن تخرج قادة ورواداً في العمل السياسي كما في باقي المجالات العلمية. و"الحقيقة أن الفارق هائل بين عقلية بيروقراطية أمنية تتصور أن المواطن الصالح ، هو الذي يكره السياسة ويبعد عنها ويسمع كلام رؤسائه ويطيعهم معصوب العينين ، وبين عقلية سياسية تعرف أن المواطن الصالح هو الذي يبدأ - منذ أن كان طالبا - بالاهتمام بالقضايا العامة ومنها السياسة والأدب والفن، وهو الذي يتظاهر من أجل فلسطين والعراق والديمقراطية، وهو أيضا الذي يتضامن اجتماعيا مع زملائه الطلاب المحتاجين ..." (د.عمرو الشوبكي صحيفة المصري اليوم بتاريخ 30/3/2006) . 4- إعادة الشرعية والمظلة القانونية لمختلف تيارات العمل السياسي السلمي ، فالخير أن نترك لتلك التيارات أن تعمل من داخل مؤسسات الدولة بدلا من التطاحن والملاحقة غير المجدية . "وإذا كانت هناك خصومة مبررة بين الحركة الإسلامية والنظام السياسي، فليس من المعقول أن يتخذ المجتمع كله رهينة لحسم هذه الخصومة" (جمال سلطان/مراجعات في أوراق الحركة الإسلامية في مصر". الثانية - تدعيم مفهوم المواطنة والانتماء : ثمة فصام نكد بين المواطن وبين الدولة .. واقع لاشك فيه ولا يمكن بحال إغفاله ، وإلا كان ضربا من السذاجة المفرطة ، وإغفالا لقضية محورية طارحة نفسها بقوة ، ولها من الآثار والتداعيات في المنظور القريب والبعيد على السواء ما الله به عليم. فمن المثير للدهشة والحزن في آن واحد أن تجد بعض المواطنين يتمنى، وللأسف الشديد،، أن تحتل بلده حتى تنتهي أزماته وتنفرج كرباته، لأنه بظنه الواهم البسيط أدرك أن ما هو فيه من بؤس وشقاء هو السقف الذي لا يمكن له في ظل الاحتلال أن يصل إليه .. وهذا نذير خطر وشؤم ومنذر بوبال عظيم على مستقبل البلد واستقلاله وأمنه. وقد لا تكون تلك الأمنية مستغرقة بحيث يسهل رصدها، ولكن على كل حال هي تدق ناقوس الخطر بأن المواطنة والانتماء الحقيقي في خطر، ومن قبيل التوهم والغفلة عن حقائق وطبيعة الظواهر المجتمعية ، التعويل على فترات ماضية ظهر فيها الانتماء والتضحية إلى حد مطمئن، وذلك لأن الانتماء (مفهوم ديناميكي متحرك يتمتع بطبيعة مرنة...أي انه ليس مفهوما ميتافيزيقيا يعطي مرة واحدة وللأبد. فبقدر ما تتوافر أسباب حضوره والشروط التي يتخلق في رحمها يكون وجوده وفعاليته والعكس صحيح) دورية أحوال مصرية العدد 31 ص206. ولن يتأت التغلب على هذه الوضعية ، إلا بأجندة متكاملة تحتوى على مجموعة من العناصر التي تدفع من جديد في مجرى الانتماء والمواطنة لعل أهمها الأتي: 1- إصلاح بنيوية التعليم في مراحله المختلفة، لاسيما الأولى، بحيث يربط الفرد بماضية ويخاطب هويته ويزكيها. 2- إصلاح منظومة القيم في المجتمع من خلال رصد السلوكيات المدمرة واحتواء آثارها، لاسيما المرتبطة بنشوء طبقة رأسمالية شديدة الثراء والبذخ، "فبدون الأخلاقيات المدنية تهلك المجتمعات، وبدون الأخلاقيات الشخصية لا يكون لبقاء هذه المجتمعات أية قيمة" كما يقول برتراند راسل في كتابه "السلطة والفرد". 3-إعادة تقويم المردود الثقافي لوسائل الإعلام، والبحث عن آلية مناسبة بحيث يمكن الاستفادة منها في تقويم مظاهر الانحراف البادية في المجتمع، وتقوية جانب المواطنة والانتماء. 4- التغلب على المشاكل الأساسية المؤرقة التي تتطلب تدخلا حازما من قبل الدولة، كقضية البطالة والغلاء المفرط في الاحتياجات الضرورية للمواطن. 5- محاربة الفساد في شتى صوره، وبصورة علنية واضحة تظهر تحيز الدولة للشفافية والحفاظ على أموال الشعب، وبخاصة ذلك المرتبط أو قريب الصلة بمؤسسات الدولة أو العامين فيها. 6- احترام الفرد وإشعاره بآدميته وإنسانيته من خلال التعامل القانوني الراقي من قبل "جميع" مؤسسات الدولة وأجهزتها، والتخلص من القوانين سيئة السمعة التي حرمت المواطن من الاندماج بإيجابية وفاعلية في العمل العام. 7- تقوية النسيج الاجتماعي بالتركيز على تقليل الفوارق بين الطبقات وزيادة رقعة الطبقة المتوسطة التي هي عماد المجتمع وصلبه. 8- شحذ الفاعلية تجاه التحديات التي تواجه المجتمع بصورته الكلية سواء الداخلية منها أو الخارجية وتركيز الأنظار على المخاطر والتحديات المشتركة. الثالثة- إيجاد المشروع القومي التنموي : وهنا يتوجب أن تحشد الدولة طاقات المجتمع وتشحذها في الاتجاه الصحيح، وهو ما يمكن تسميته بمحاولة إيجاد "المشروع القومي" الذي تتناغم فيه كافة المجهودات والهمم، ويكون هو السبيل لنمو المجتمع ورفاهيته، ولا يكون فقط حصرًا على فئة دون غيرها. فتنمية المجتمع وتحديثه يقلل إلى حد كبير من الرغبة التي تراود بعض الزعامات في الخروج من عباءة الدولة وتكوين كيانات منفصلة، وحتى إن وجدت فإن دعوتها تظل خافته لا تجد لها أنصارًا. وشمولية التنمية لكافة فئات المجتمع، مطلب أساسي ورغبة ملحة، بحيث لا يفرق جنوب عن شمال ولا حضر عن ريف، وأن تكون الحظوظ متساوية، فلا يحظى سكان العواصم والأقاليم الحضرية بغالب فرص التنمية ، ويذهب الفتات إلى غيرهم، وهو ما قد يُولد حقداً طبقياً وطائفياً يزعزع أركان المجتمع. هذا مع مراعاة الخصوصية والتقاليد والأعراف التي تصطبغ بها فئة معينة أو فئات من الشعب، طالما أنها لا تخالف ثوابت المجتمع، مع محاولة دمجها - بصورة أو أخرى - في الإطار الكلي للمجتمع، وسحبها إلى المشاريع القومية الكبرى التي لا تدحض هويتها، وفي ذات الوقت تشعرها بمظلة الدولة وقوتها. وهذا البرنامج الذي ندعو إليه لابد وأن يشتمل - بحسب رؤيتنا - على عدة أركان منها الأتي : 1- أن يرتفع فوق الخلافات المزمنة بين أبناء المجتمع كي تجتمع عليه الأمة بكافة أطيافها، وان يرفع قيمة المجتمع ومصلحته فوق الاعتبارات الشخصية. 2- لابد أن يراعي ذلك البرنامج هوية المجتمع ومرجعيته التي لا يمكن أن تنسلخ منها، وأن يكون مقبولا على المستوى الشرعي الإسلامي كذلك. 3- لابد أن تتوافر في هذا البرنامج القومي الشروط التي تدفع الأمة للحاق بركب التنمية والتقدم الذي تخلفت عنه وركنت إلى التخلف سنوات طويلة. 4- أن يكون شموليا لكافة مناحي الحياة..سياسية ..اقتصادية ..اجتماعية ..وغيرها، فلا يمكن أن تكون نهضة ، ولا يمكن أن يكون مشروعا قوميا ، إذا ما اغفل المشروع جانبا من تلك الجوانب وغيرها مما يصبغ وجه الحياة على العموم في المجتمع. 5- أن يركز بالأساس على "تنمية الاستقلال" التي تتيح لبلادنا أن تعتمد على ذاتها في الضروريات والحاجيات ، ليس فقط للأفراد ولكن لكل ما من شأنه أن يحقق للبلد بمجملة السيادة الكاملة دون تدخلات وإملاءات خارجية، على أن تتبعها مراحل تنموية أخرى تتيح لنا التفرد والريادة. 6- أن يكون مشروعا نابعا من احتياجات المجتمع الحقيقية والفعلية ويتسق معه ومع تطلعاته، تجنباً للأنماط التنموية المستوردة التي غالبا ما تكون موسومة بالفشل ، لأن بنية مجتمعنا لا يصلح لها إلا ما أنتجته عقولنا وسواعدنا. 7- أن يكون مخططا له بدقة وعناية من قبل مخلصين نابهين ، تحفزهم غيرتهم على أوطانهم إلى أن يرنو ببصرهم إلى آفاق مستقبلية بعيده ، ويضبطهم وعيهم الرشيد في النظر في الإمكانات والقدرات المتاحة والمبذولة. وجميل أن نختم بالملمح الذي أشار إليه د.سيد دسوقي في كتابه "مقدمات جديدة في مشاريع البحث الحضاري حين قال"...وما هي التنمية من جانب الدولة إن لم تكن هي التخلية بين الإنسان وبين ترابه الوطني يتفاعل معه في ظل عقيدة موحية بالخير وشريعة منظمة لهذا الخير ، حتى يصنع بنفسه ولنفسه مسكنه وطعامه وشرابه وكل حاجياته في هذه الحياة الدنيا في حرية يتطلبها وجوده الإنساني .. فإذا ما وضعت الدولة من القوانين والأنظمة المتعارضة والمتضاربة في مجالات الحياة المختلفة ما يعوق الإنسان عن التفاعل مع ترابه الوطني ، فلا تسل بعد ذلك عن تنمية أو نمو وبقاء". [email protected]