هل لديك استعداد لتحمل مسئولية تطوير وتنمية واحدة من المناطق العشوائية التي تذخر بها مصرنا المحروسة، بحيث تأخذ على عاتقك نقل سكانها من حالة الفقر والضياع، إلى حالة من التنمية والنجاح. كم أستغرب عندما أرى في عيونكم نظرات التساؤل والاستنكار، لمجرد معرفتكم بأني عرضت كليتي للبيع، وحصلت منها على سعر مناسب، ولكن ما لا تعرفونه أنه لولا ظهور "غادة جبر" ومجموعتها في حياتي، لعرضت باقي أعضاء جسمي للبيع أيضًا. اسمي "خالد عبد المجيد"، وعمري 22 عامًا من الضياع، فأنا واحد من أربعين شابًا باعوا كليتهم في منطقتي.. "إسطبل عنتر" التي نشأت وترعرعت فيها، وأحببتها بالرغم من كل ما فيها مساوئ وعشوائية، ولم لا؟.. وهي واحدة من أشد المناطق عشوائية وخطورة في زهراء مصر القديمة، فهي تمثل جزءًا من واجهة جبل المقطم يصل ارتفاعها إلى 20 مترًا، وتحتوي على الكثير من الشقوق السميكة والجيوب، التي أثبت مركز بحوث البناء والإسكان خطورتها، نتيجة لتسرب مياه الصرف الصحي للمنازل المقامة على حافة الجبل، وبالتالي فنحن نتوقع تحرك صخور الجبل من مكانها وانهيار المنطقة في أي لحظة. أعلم أن البعض منكم لا يزال يستنكر ما فعلناه، عندما أقدمنا على بيع أعضائنا، ولكني أرجوكم أن تتفضلوا بزيارة سريعة لتشاهدوا المأساة التي كنا نعيشها، هل جربت أن تقيم مع أسرة مكونة من سبعة أشخاص في غرفة واحدة بدون تهوية، وبحمام مشترك مع الجيران؟ هل جربت أن تعيش بدون مياه نظيفة وبدون كهرباء؟ وعندما تقوم بنقل الكهرباء عبر الأسلاك تحصل على حكم بالحبس وتظل طريدًا؟ هل جربت أن تغمرك مياه المجاري في منزلك يوميًا، ولا تستطيع سيارات "النزح" الوصول إليك في تلك الغابة من العشوائيات؟ وهل تتصور أن تفرض إتاوة يومية عليك حتى يمكنك استخدام السلم الوحيد الموصل إلى منطقة دار السلام؟ وهل تعرف معنى أن تجد أطفالك يتسربون واحدًا تلو الآخر من التعليم، وتبدأ حياتهم في الانحراف تدريجيًا. نعم.. أنا وأهل "إسطبل عنتر" جربنا أكثر من ذلك بكثير، حتى حدث التحول الكبير في حياة المنطقة بأسرها، عندما وصلت إلينا تلك المجموعة من شباب جمعية "صحبة خير"، هالهم ما شاهدوا من مآسي في المنطقة، ولذلك فقد اتخذوا القرار الصحيح بعدم المضي قدمًا في الأعمال الخيرية التي تقدم المعونة لمرة واحدة، لحل جزء من المشكلات. عرفوا أخيرًا أن انتهاج مذهب تقديم التبرعات الخيرية دون إيجاد تنمية مستدامة ومؤثرة؛ ما هو إلا مساعدة على استبقاء المنطقة في حلقة مفرغة من الفقر، المشكلة أن هناك بعض الجمعيات والمؤسسات التي حاولت مشكورة تقديم يد العون لنا، ولكن كل ذلك يبوء بالفشل.. فالقروض الصغيرة تصرف في أوجه تختلف عن سبب الحصول عليها، ورغم حاجة أهالي المنطقة للمعونات؛ إلا أنها خلقت لدى البعض منهم حالة تواكل واعتمادية تصل إلى امتهان مهنة "الحصول على المساعدات". ومن هنا بدأت الأستاذة "غادة جبر" منذ قرابة العشرة أعوام في تكوين ذلك الفريق المتميز، والذي أطلق عليه اسم (حلم إسطبل عنتر) وقد كان فعلاً كالحلم بالنسبة لنا، فقد بدأت المجموعة برفع واقع المنطقة من خلال دراسة بحثية علمية جادة، تتناول بالتفصيل كل جوانب حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية، ومن ثم وضعت خطط النمو والنهوض بالمنطقة بناء على تلك الدراسة، وقد تعلمت المجموعة درس قاسي وعملي في بداية المشروع، عندما قامت بتقديم القروض متناهية الصغر لبعض الحالات التي توسمت فيها الأمل في نجاح مشاريعها، وللأسف فقد نجحت 5 مشاريع فقط من ضمن 25 مشروعًا، ولكن ذلك لم يزدهم إلا إصرارًا على النجاح، وبعد دراسة أسباب الفشل وجد أن السبب الرئيس هو قلة الوعي وافتقار سكان المنطقة للمهارات، فغالبيتهم عمال باليومية (شيالين أو باعة جائلين) ليس لديهم حرفة، ولذلك جاءت فكرة تعليمهم المهارات والحرف اليدوية، فكانت الخطوة الهامة في العام 2003 بإنشاء مشغل للخياطة والتريكو والأشغال اليدوية، لتدريب البنات والسيدات، مع محو أميتهم. عرفت المجموعة أن البداية تكون بالتعليم والتوعية، ولذلك فقد كانت الفكرة التالية هي إنشاء "مدرسة المجتمع" التي تقدم لأطفال "إسطبل عنتر" فرص من التعليم المتنوع يمكنهم من توجيه قدراتهم الإبداعية بشكل إيجابي، حيث تم توفير المناهج المدرسية، مضافاً إليها مستوى جيد من التدريب المهني المتخصص، بالإضافة إلى الاهتمام بالآداب العامة والانضباط السلوكي، فبدأت المدرسة في ضم أطفال الشوارع والمتسربين من التعليم، من خلال برنامج يومي متكامل يتضمن أنشطة مدرسية، وتدريب على صناعة السجاد، وأنشطة فنية ورياضية وترويحية، كما تهتم بصحة الأطفال عن طريق تقديم وجبة غذائية، ورعاية صحية، وتوعية صحية وبيئية لهم ولذويهم، بالإضافة إلى ذلك فقد وفرت المجموعة حوافز مالية أسبوعية للأطفال كمردود مادي مقابل مجهودهم في ورشة السجاد، وحتى يتسنى لكل طفل مساعدة أسرته، بما يضمن استمراره في التعليم. كان الجميع في المنطقة يحب تلك المجموعة المتميزة من الشباب التي تقودهم "غادة"، وبدأنا بالفعل في التعاون البناء معهم، وخصوصًا بعدما استطاعوا حل واحدة من أهم مشكلاتنا وهي قضية البطالة، من خلال عقد اتفاقيات مع المصانع والشركات المختلفة لتشغيل الشباب بالمنطقة، وذلك بعد اختيارهم بعناية وعقد مقابلات شخصية معهم، حيث يتم توظيفهم بناء على مسئولية الجمعية، بدأنا نشعر بفارق كبير خلال السنوات القليلة الماضية، فقد تمكنت المجموعة من توفير فرص التعليم ل 160 طفل متسرب من التعليم، وتم تدريب مئات الأطفال على أعمال السجاد ودعمهم بالحوافز المادية والمعنوية، بالإضافة إلى الكثير من المشاريع الصغيرة لمئات الأسر الفقيرة التي بدأت تتحسن أوضاعها المادية والمعيشية كثيرًا، بدأنا نشعر بالفرق عندما رأينا أطفالنا يحلمون كباقي الأطفال، ويشاركون في الأنشطة الترفيهية والاجتماعية مثل فرق الكشافة، وكان لا بد أن يتغير سلوكي أنا والكثيرين من سكان المنطقة، فعندما تشعر بيد حانية، وبفكر ومجهود حقيقي للتنمية لا بد أن تتغير، نحن الآن من يحرص على تغيير الواقع وتطوير المنطقة، ونحن الآن من يبادر مع الشباب ويشارك في تنفيذ أفكارهم ومشاريعهم الجديدة. صحيح أنه لا زال هناك الكثير حتى نتغلب على ميراث سنوات طويلة من الحياة العشوائية، ولكني أشعر براحة الضمير الآن بعد أن أضاءت لي "غادة" ومجموعتها الطريق، وفتحت النافذة لنرى النور من حولنا، لن أفكر بعد اليوم في بيع المزيد من أعضاء جسدي، بل سأجتهد أن أصبح عضوًا نافعًا ومثمرًا في المجتمع، أرجوكم أن تتعلموا من أسلوب عمل "غادة" ورفاقها في منطقتنا، من حماسهم وإصرارهم، ورغبتهم في عمل شيء لبلدهم، تعلموا منهم أن تقاتلوا سنوات طويلة من أجل رسالة سامية، وفي نهاية ذلك ستشعر بمعنى لحياتك وتشعر بالطعم الحقيقي النجاح. شكرا لك يا "غادة"، فقد بدأت المشوار، وصنعت لنا الحلم.. حلم إسطبل عنتر. [email protected]