لم يتوقف الإعلام منذ نحو الشهر عن الحديث اليومي عن تحرير "كرداسة" بمحافظة الجيزة باعتبارها صارت مستوطنة للإرهاب، أو دولة داخل الدولة ، وبعد فترة بدأنا نسمع عن تحرير "دلجا" بمحافظة المنيا أيضا، ولم أكن قد سمعت باسمها من قبل. حديث التحرير يعني أن هناك عدوا محتلا لابد من هزيمته وطرده من المنطقتين، ولأنه ليس هناك محتل خارجي يسيطر عليهما فإن العدو المحتل داخلي وهو الإرهابيون الإسلاميون من الإخوان وحلفائهم فيما يسمى تحالف دعم الشرعية، وهذا وصف وتهمة صارت عادية وتطلق بسهولة على من يراد تشويهه مجتمعيا وعزله سياسيا ومحاكمته قضائيا. قد يبالغ الإعلام في إطلاق الأوصاف والاتهامات على من يشاء دون أسانيد مطمئنة، فهو يضع نفسه في مقدمة الحرب على ما يسمى بالإرهاب حتى بات الإعلاميون يزايدون على جنرالات الشرطة والجيش في الحشد والتعبئة ووضع الخطط لاستئصال ذلك الإرهاب من جذوره . لا أحد يوافق على ممارسة العنف والإرهاب لترويع الآمنين واستهداف رجال الشرطة والجيش والمنشآت والمصالح العامة والخاصة، كما لا يجب أن تمارس الدولة عنفا خارج القانون أو متجاوزا للقانون مهما كانت الضغوط والظروف لأن الفارق شاسع بين سلوك الدولة المؤتمنة على شعبها، كل شعبها، وليس فريق ضد آخر، وبين سلوك الأفراد والجماعات، ومن هنا تبرز أهمية القضاء المستقل قولا وفعلا حتى إذا تجاوزت الدولة في حق مواطنيها أو أساءت استخدام العنف المنظم الذي تحتكره فيكون هناك قضاء نزيه يقتص للضحية وينبه الدولة إلى خطورة ما تفعله. المفارقة في " دلجا " و" كرداسة " اللتين تم تحريرهما خلال ساعات قليلة لا تتناسب مع حملات التعبئة الضخمة إعلاميا وأمنيا أننا لم نر قوات احتلال داخلية تقوم بتحصين القريتين ووضع المتاريس وغلق المداخل والشوارع والطرقات ونصب المدافع وراجمات الصواريخ واستنفار العناصر المسلحة لمواجهة قوات الشرطة والجيش ، لكننا شاهدنا القوات تدخل " دلجا " وبعدها " كرداسة " بيسر شديد ودون أن يُطلق عليها ولو حجر من المحتلين ولم يسقط جندي أو ضابط أو حتى عنصر من المسلحين الإرهابيين ما يعني أنه لم يكن هناك احتلال حقيقي يستدعي هذا النفير وتلك الحشود، أما مقتل مساعد مدير أمن الجيزة في " كرداسة " فهي جريمة ملتبسة تحتاج إلى تحقيق شفاف جدا. هذا التحرير النظيف وترحيب السكان بالجيش والشرطة للتأكيد على أنهم ليسوا خارجين عن القانون يعني أن الدعاية ضد البلدتين قامت على غير أساس إلا إذا كان هدفها الخفي هو استمرار فزاعة الإرهاب لتبرير ومواصلة الإجراءات الاستثنائية، وتأكيد أن التفويض كان ضروريا ، وخلق مبررات لاستمرار مطاردة المعارضين لما حدث في 3 يوليو والتضييق عليهم. ما حصل أنه تم القبض على العشرات من أبناء "دلجا" و"كرداسة" وهذا أمر سهل كان يمكن أن يتم في أي ساعة وبعدد قليل من القوات، بل وبواسطة المخبرين، فما أسهل توقيف أي شخص مهما تخفى، ولن يستطيع أي مواطن مسالم أن يقاوم اعتقاله ؟!. شهادات أبناء المنطقتين تنفي سيطرة إرهابيين عليهما أو الإساءة للمسيحيين أو وجود مسوغات حقيقية تبرر هذه الحشود في الجو والبر لاقتحام مناطق مفتوحة أصلا وتحويل حياة مواطنيها إلى جحيم. بالطبع ما جرى ضد كنيسة في "دلجا" مرفوض تماما لكن راعي الكنيسة قال إن بلطجية هم من أحرقوها، وقتل وسحل والتمثيل بجثث ضباط مركز شرطة كرداسة جريمة مدانة وعمل مشين يتطلب البحث عمن ارتكب الجريمة وليس العقاب الجماعي على الألوف من الأهالي الذين يشعرون بالمرارة بسبب تشويههم ودمغهم بالإرهاب وهذا ليس في مصلحة السلم الاجتماعي ولا علاج الأزمات وإصلاح الأوضاع التي من أجلها تم عزل مرسي. على السلطة أن تدرك خطورة شعور المرارة الداخلي في "دلجا " و"كرداسة" وفي غيرهما من المناطق التي يمكن أن تتحرك القوات تجاهها مستقبلا تحت عنوان تحريرها من إرهاب جديد ، وإذا كان موجودا بالفعل ألا يمكن التحرك بهدوء واعتقال من تتوفر اتهامات فعلية لاعتقاله وتقديمه لمحاكمة عادلة؟!. من يستطيع أن يواجه دولة ويهزمها ويسقطها كما يزعم مسؤولو ورجال وإعلام النظام اللهم إلا إذا كانت دولة كرتونية وليست دولة تمتلك جيشا قويا يصنف ضمن أقوى جيوش الشرق الأوسط وتمتلك جهاز شرطة مدربا وقويا وبالتالي فإن أي جماعة مهما كان عتادها وتسليحها لو قررت الخروج والمواجهة فإنها لن تصمد طويلا ويتم سحقها، وتجربة الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد خلال حقبة التسعينيات لها دلالتها فقد انتهت بسحق الحركتين والعودة في النهاية إلى سبيل الحوار لكن بعد خسارة مصر لكثير من أبنائها سواء من الإسلاميين أومن الشرطة، ومن تعطيل للتنمية، ومن استخدام نظام مبارك للإرهاب كفزاعة لمزيد من الاستبداد والقمع والبطش. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.