عادي جدا هذه الأيام أن تفتح تليفزيون الدولة الرسمي في قناته الأولى فتجد ضيف البرنامج هو سيادة الخبير العسكري فلان الفلاني ، فإذا ضغطت على الريموت كونترول لتذهب إلى القناة الثانية فستجد الحوار مع سعادة الخبير الأمني فلان الفلاني ، فإذا ذهبت إلى الفضائية المصرية فستجد البرنامج في حوار ساخن مع الخبير الاستراتيجي اللواء اركان حرب فلان العلاني ، والأمر لا يقتصر على التليفزيون الرسمي ، فغالب القنوات الفضائية الخاصة المملوكة لرجال أعمال عصر مبارك يهيمن عليها بالكامل تقريبا السادة الجنرالات ، ونادرا جدا أن تمر ليلة في قناة منهم دون أن يشرفها بالحضور الخبير الأمني أو الخبير الاستراتيجي أو الخبير العسكري ، والسادة الخبراء العسكريون والاستراتيجيون والأمنيون يتكلمون في كل شيء يخطر على بالك ، ويحللون لك كل الأسرار بلغة العارف ببواطن الأمور والعلم اللدني ، سواء كان في علوم العسكرية أو علوم الدين والقرآن والسنة ، هم خبراء "بتوع كله" ، وقد لاحظت أن الكثيرين ممن حولي لاحظوا تلك الأعجوبة الإعلامية الجديدة ، ولكننا اختلفنا في تفسيرها ، هل هي قلق زائد وتوتر مبالغ فيه من أن "يفلت" الكلام من أي ضيف حتى لو كان من "حبايبنا" والظروف لا تتحمل النقد أو المراجعة ، فيتم الإتيان بمن يعرفون قواعد الضبط والربط ويلتزمون بالتعليمات بصرامة ، هل رأت الشؤون المعنوية في القوات المسلحة أن وجود قوائم "مأمونة" ومعدة بدقة يمكن أن "تحمي" الفضاء الإعلامي من أي اختراقات سياسية غير مأمونة العواقب ، لكن المشكلة أن مستوى مشاهدة التليفزيون الرسمي للدولة ضعيفة جدا بالمقارنة بغيره ، والبعض ينظر إلى شاشة الفضائية المصرية كنوع من الحفريات المكتشفة قديما من تراث الفراعنة في فن إشعال المباخر لمن غلب ، وكنت أرى بعيني رأسي نفس هذه الوجوه من المذيعين والمذيعات ومعدي البرامج والقيادات الرفيعة في ماسبيرو وهي تتغزل في الإخوان المسلمين ، أيام كانوا "راكبين" البلد ، وتتحدث بهمس وإكبار وإجلال مع أي كادر إخواني ولو صغير ، وأذكر أني كنت ضيفا في أحد البرامج وعندما توجهت بالنقد لوزير الإعلام الإخواني وقتها صلاح عبد المقصود ، لم تشأ المذيعة أن تترك الموقف يمر دون تعقيب طويل عريض استمر إلى نهاية الحلقة عن روعة هذا الوزير والأخلاق العالية التي يتعامل بها مع التليفزيون والعاملين فيه وكيف أنه حقق طفرة إدارية وفنية غير مسبوقة ، وكلام لم أعد أذكر معظمه لأني لا أهتم عادة بحفظ تراث النفاق . البعض له رؤية أخرى في هذه "العسكرة" للإعلام المصري ، تأتي من أن مساحة الاختيار ضاقت أمام الإعلام الموالي ، فمعظم الرموز الفكرية والسياسية سواء المحسوبة على ثورة يناير أو موجة 30 يونيو أصبح لها مواقف نقدية حادة مما يجري الآن ، وملاحظات لا ترضي صاحب القرار الحالي ، رغم أنهم جميعا لا يطيقون الإخوان ولا يتوقفون عن نقدهم ، وبالتالي فاستضافتهم لمخاطبة الرأي العام في هذه الظروف يمكن أن تتسبب في "بلبة الرأي العام" وتكدير السلم الأهلي ، وتهديد السلام الاجتماعي ، وهي كلها بعض من نصوص الاتهامات التي توجه الآن لمعارضي السلطة ، ومن ثم فإن معدي البرامج أو مرجعياتهم من أصحاب القنوات ضاقت أمامهم مساحة الاختيار ، واتجه معظمهم للعمل في "المضمون" ، وبالتالي يتم الاستعانة بالسيد اللواء والسيد الفريق والسيد الخبير الأمني أضمن . والغريب أن بعضا من هؤلاء "الخبراء" وكلهم من المتقاعدين ، ومن ليست لهم أي صفة رسمية ، يتحدثون بلسان "الدولة" عادة ، وأحدهم ممن يحمل اسما موروثا من التراث العربي القديم ، تكلم قبل أيام لقناة فضائية خاصة وقال : إن الدولة لن تسمح بكذا وكذا ، وحدد عدة قرارات ستصدر حسب قوله تباعا ، رغم أنه لا صفة له بأي معيار في أي هيكل من هياكل الدولة ، ولكن يبدو لأن الأمور دخلت في بعضها ، والفضائيات تحولت إلى جلسات "مصاطب" ، لم يعد هناك حرج أن يعلن عسكري متقاعد قرارات الدولة المصرية التي ستتخذ الشهر المقبل .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1