إذا كان الهدف من تدريس تاريخنا هو تشكيل ذاكرة جماعية وطنية، فإن المهام التي يجب أن نقوم بها هو الانتقاء منه، ما يتناسب مع المرحلة العمرية التى نستهدفها، فالذاكرة الوطنية الجماعية التى نبغيها عبر مدراسنا المصرية، يجب أن تلعب دور المغزل الذي يجمع بين تلاميذنا وطلابنا وشبابنا كمجموعة واحدة، بدرجة تحدث هذا التماسك، حتى دون التعارف أو الاحتكاك المباشر بينهم، والذاكرة هى كم تاريخى كبير قائم، والخبرة التى نبغيها هى الانتقاء من هذا الكم، ومن ثم فإن الهدف المطلوب هو ليس عمل نسيج مصرى عربى مستقل بذاته فقط، بل التفاعل مع جميع خلايا هذا النسيج أيضًا. فتنمية الشعور الجماعي بين المصريين هو التأليف بينهم حول موضوع محدد، ومطروح بطريقة محددة، ليؤدى وظيفة سامية داخل المجتمع يقترن فيها الفخر بالاعتزاز، والتمجيد بالتكريم، وحمل الأجيال الجديدة على تقدير جهود السلف من أجدادهم، ولما كان التاريخ فى أبسط تعريفاته هو سجل للماضى، فإنه فى حالتنا يحتاج إلى تصنيع معين من قبل هذا الخبير المختار لتلك المهمة. فاسترجاع الأحداث التاريخية المصرية على مر العصور، وتركيبها على المراحل الدراسية، ثم تقديمها للجمهور المستهدف يحتاج لمجهود كبير من هؤلاء الخبراء، فالمهمة صعبة والأحداث كثيرة، لكن يبقى له اختيار العوامل النفسية التي تعطي طابعًا خاصًا لعمله، لتظهر تلك الفروق بين هؤلاء الخبراء، ومدى قدرة كل منهم على جمع أواصر مجموعة عمرية على ما يجعلها تنتمي لمرجعية واحدة بكل مكوناتها، وعلى هذا، لابد للمؤرخ المختار لتلك المهمة أن ينتمي لهذا المجتمع الذي يؤرخ له، فهو الذى يختار له النماذج والأحداث التى تبنى شخصيته الوطنية وتؤلفها، وهو الذى يجمع للأجيال القادمة من التاريخ قدرًا من عوامل التماسك لبناء الشخصية الوطنية المصرية والعربية واستمرارها. فى هذا الإطار، فإن ما يقدم لأطفالنا وتلاميذنا فى المدارس عن التاريخ المصرى يحتاج لمراجعة وتقوية فى مضامينه ومحتوياته. ومع أن مراجعة ما يقدم لأطفالنا تحتاج لجهود جماعية وباحثين كثر، لمتابعة الأمر ورصده بدقة، وعمل استبيانات عن تفاعل التلاميذ معه، ومدى فهمهم له وتأثيره فيهم، إلا أن ما يقدم يعد جيدًا، لكنه يحتاج لدعم وتطوير ونقد. التاريخ كما جرت العادة عندنا، كان يوظف لمصلحة الحاكم لتسويق الأفكار السياسية التى يريد نشرها وبثها عبر المجتمع، وذلك بهدف تخريج مواطنين صالحين يقبلون بنظم الحكم القائمة ويرتضونها، ولا يرون لها بديلًا، بمعنى أنه لو كانت المرحلة تتطلب الخصخصة، كان يتم التركيز على الحقبة الليبرالية وكبار الملاك والأعيان، ولو كانت المرحلة ثورية، فيتم التركيز على الثورات والمفاهيم المرتبطة بها، وهذا يعنى أننا لا نملك استراتيجية واضحة لأهدافنا من تدريس التاريخ عبر الوطن. فالتغيير لا يساير الواقع ولا يتغير، إلا بمنطق الاستمرارية واستكمال الفترات التاريخية التى يعاصرها التلميذ حتى لا يتشتت عقله بين وسائل الإعلام التى يشاهدها ويسمعها، وعلى هذا فإن أهدافنا المفترضة من التاريخ، بأنه يعلم الانتماء، ويبث الشعور الوطنى والقومى، ويرسخ لمفاهيم العدالة الاجتماعية والتقدم ويحارب الفقر والجهل والمرض، لا بد أن تكون هى السياسة الثابتة من وراء اختيارات النماذج المقدمة لتلاميذنا وطلابنا، فلا يمكن لدولة أو وطن أن يستغنى عن رموزه الوطنية والعلمية والثقافية والاقتصادية، ولا عن نجبائه فى كل المجالات، لكن بشرط ألا يتم التركيز على مجال دون آخر، ولا على مرحلة دون أخرى، وألا يتعصب لحاكم دون آخر، ولا لشخص دون آخر، فالكل أمام ميزان التاريخ سواء، وألا يقدم ساستنا وكأنهم آلهة لا يخطئون، بل كبشر عاديين، يصيبون ويخطئون وينطبق عليهم ما ينطبق على البشر من إيجابيات وسلبيات، وألا يتم إغفال حركة شعبنا وجهوده ودوره لحساب بلده والحكام والنخبة الحاكمة. ولو أخذنا أمثلة لما يقدم، سنجد أن المؤلفات المدرسية فى فترة من الفترات، رسخت لاعتقاد مفاده أن مصر عاشت أحلك فتراتها فى العصر العثمانى، دون الأخذ فى الاعتبار الدراسات الحديثة التى أعادت الاعتبار لهذا العصر، أيضًا فإن التعصب للحقبة الليبرالية التى سادت قبل ثورة يوليو 1952 لا يأخذ فى الحسبان الانقسامات حول هذه التجربة وسلبياتها وأثارها القميئة على المصريين، الافتراض بأن لدينا نخبة واعية مرتبة تعى الفترة المعاصرة التى تعيشها الأجيال المستهدفة وتحدياتها، وبالتالى تركهم وشأنهم فيما يختارون لها، هو افتراض جيد وصحيح، لكن الأمر يتطلب وجود دراسات متعمقة حول تأثير تلك المؤلفات على الجماهير المستهدفة، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، فمن الواجب علينا أن نقدر حجم الآمال والمخاطر التى أنزلناها على أرض الواقع بصورة تؤكد صحة ما نبنى له، أو تهدمه. حفظ الله الوطن ورعاه. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- كاتب ومحلل سياسى Ahmedabdeldaim210@hotmail,com