«الوطن».. من أكثر الكلمات «التباساً» في الفكر الإسلامي، والحقيقة أن الكلمة بمنطوقها لم يرد لها ذكر لا في القرآن الكريم، ولا في السّنّة النبوية، ولم يستخدم بالمفهوم الذي نعرفه اليوم، إلا منذ بضع عشرات من السنين، وربما في نهايات القرن 19 وبدايات القرن العشرين. ولكن هل يعني عدم ذكر «الوطن» في القرآن والسّنّة وكتب الفقه وأدبيات الإسلام عموماً انه غير موجود؟! وهل يعني انتماء المسلم الى «أمة الإسلام» غير المحددة بموقع جغرافي معيّن، أو حدود سياسية بين الدول، أن يطرح عنه حب «بلده» والأرض التي عليها نشأ، وتربى، وفيها يعيش كل من يحب؟ الحقيقة أن فترة بدايات القرن الماضي، وسقوط دولة الخلافة العثمانية، وتقسيم «إرثها» من البلاد بين دول الاستعمار، شهدت أيضاً – وكرد فعل معاكس لهذا السقوط – نشوء فكرة «الأمة الإسلامية» لتحل محل دولة الخلافة، وتعيد «لمّ شمل» الدول التي تفرقت على موائد البريطانيين والفرنسيين وغيرهم، وبالرغم من «الغوص» في «كراسات» مؤسس الإخوان ومرشدهم الأول حسن البنا إلا أن فكرة «ازدراء الوطن» لم تكن مؤكدة في أفكاره، ولا متبلورة في تعليماته، بالرغم من قوله في معرض رفضه لفكرة «الوطنية» الغربية: «الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية، ولا بأشباهها من تعبيرات مثل عربية أو فرعونية أو سورية». وشرح الرجل تدرّج «الوطنية الإسلامية» في مفهومه بأنها تبدأ بالقطر الخاص، بقية الأقطار الإسلامية التي اعتبرها جميعاً «وطناً» إسلامياً، ثم يأتي في الدرجة التالية الارتقاء الى الدولة الإسلامية الأولى، وأخيراً تأتي (يوتوبيا) الوطن المسلم الذي يضم الدنيا كلها شمولاً وإجمالاً. والبنا هنا لا يزدري أو يحتقر فكرة «الوطن» بمفهومه القطري الضيق، بل يعتبره اللبنة الأولى في نظريته (المثالية) التي تمتد وتتوسع بهذا (القطر) حتى يشمل العالم كله. لذلك يقول البنا متحدثاً عن مصر: «نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره، وسنظل كذلك ما حيينا معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة «النهضة» المنشودة، وانها جزء من الوطن العربي العام، وإننا حين نعمل لمصر فإننا نعمل للعروبة والشرق والإسلام عموماً». إذاً فالبنّا كان واضحاً رغم مثاليته، ولم يسبّ مصر أو يتصادم مع الدولة المصرية في بدايات دعوته، ثم توفي دون أن يعيد توصيف أيٍّ من مفاهيمه للدولة والخلافة. وعندما بدأ المفكر «الإخواني» سيد قطب، والذي تحكم جماعته «القطبيون»، «الإخوان» الآن كان أكثر وضوحاً، وتصادماً في الوقت نفسه فقال: «إن المجتمع الإسلامي «وحده» هو المجتمع الذي تمثل فيه العقيدة رابطة التجمع الأساسية والذي تعتبر فيه «العقيدة» هي الجنسية». ثم أعلن رفضه للدول العربية وتبنّى نظرية «جاهلية» المجتمع القائم، ودعا الى «الحاكمية» ودعا الى القضاء على المجتمع «الجاهلي» الذي نعيش فيه وتغييره، وبما أن المجتمع «كافر» يعيش الجاهلية، فإن قسم الولاء يصيح بالسمع والطاعة للمرشد والولاء للجماعة، لا للدولة الكافرة!! واختفى مفهوم المصالحة المؤقتة مع الوطن وإعلاء شأنه كخطوة أولى نحو تحقيق (اليوتوبيا) الإسلامية المنشودة، ليحل محله المفهوم الذي لخصه مهدي عاكف في عبارته الأشهر: «طز في مصر واللي في مصر واللي جابوا مصر». وغداً نلتقي.. إن كان في العمر بقية. وحفظ الله مصر وشعبها من كل سوء.
حسام فتحي عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter@hossamfathy66