على أن النموذج الأوفى لفنون التزوير التاريخي على الإطلاق ، يمكن أن يجده القارئ في الكتاب الذي ألفه (رفعت السعيد) عن الإمام حسن البنا ، وهو الذي وضع له عنوانا (حسن البنا متى ، كيف ، ولماذا؟) ، والكتاب طبع عدة طبعات ، كانت المفارقة المضحكة المحزنة معا ، أن فهمه وتحليله في الطبقة السابقة يتناقض تماما مع ما يقوله في الطبعة اللاحقة (63) ، ودون أن يثير ذلك عنده أي داع للاعتذار أو حتى لفت الانتباه لحد الذي يتصور فيه القارئ حقيقة أن الكلمات عنده لم يعد لها معنى أو دلالة مضبوطة . لقد كتب في مقدمة الطبعة القديمة يقول : (كان يتعين على أن أمعن فكري في ظاهرة الإخوان المسلمين ، وما أنبتته في مصر من تيارات قد تكون امتدادا لها أو تمردا عليها) (64) ، تأمل لغة الدقة والتمييز ، بأن التيارات الإسلامية المغالية ليست بالضرورة امتدادا للإخوان ، بل قد تكون تمردا عليها . لكنه في مقدمة الطبعة الجديدة كتب بلغة الحسم والخطابة يقول : (إن الجماعات الإسلامية بتطرفها الذي يبدو مثيرا للحيرة والاضطراب والذي يحاول الإخوان التملص منه والتنكر له ، إن هذه الجماعات ليست سوى امتداد للخط الذي رسمه البنا ، وليسوا سوى امتداد طبيعي ونتاج منطقي لأفكاره ومقولاته) . (65) ويحار الإنسان فعلا هل هاتان المقدمتان المتناقضتان هما لكتاب واحد ، وبقلم كاتب واحد ؟!! ومأساة (رفعت السعيد) في هذا الكتاب أنه تقدم إلى القارئ بتأكيدات عديدة ، أنه سيحاول أن يكون موضوعيا ، وكرر هذا التأكيد بصورة لافتة للنظر ، ولا يمكن أن تصدر من (مؤرخ) الأصل في كل جهوده أن يكون (موضوعيا) ! ولكن يبدو أنه كان (قلقا) من سوء وضعه عند القارئ ، وشعوره الدفين بأنه (متهم في أمانته التاريخية) بل هذا ما صرح به في مقدمة كتابه ، حيث يقول بالحرف : (ولقد يتصور البعض أن واحدا من كتاب اليسار قد قرر أن ينصب مشنقة جديدة للإمام الشهيد) . (66) وأرجو أن يلاحظ القارئ كلمة (الإمام الشهيد) إذ أن لها مفارقة تأتي بعد حين ، ولكن رفعت السعيد لم ينس قلقه من أنه يكتب عن (خصم) سياسي ليصفى معه حسابات قديمة ، ولذلك فقد أكد قلقه من توابع هذه الموضوعية إذ أنه حسب كلامه : (كل تناول إيجابي للإمام الشهيد سيعد تنازلا فكريا تجاه خصم سياسي وفكري عنيد) . (67) وعندما استشعر أن الموضوعية مطلب عزيز المنال عنده ، فقد راح يصرح في (بحثه التاريخي) !! ، وبخط مميز في مقدمة أحد فصوله ، بالحكمة الفرعونية : (ويل لمن لا يعرف قلعة خصمه جيدا من الداخل) ؟! (68) ومن المثير للدهشة أن يتحدث (مؤرخ) بمثل هذه الفجاجة ، متباهيا بخصومته لمن (يؤرخ له) ، والذي يتعامل مع (مادة تاريخية) كخصم يتهدده (الويل) من جانبها ، فمن المحال أن يكون قاضيا أو حكما ، لأن أبسط أسس النزاهة قد خرجت منه تماما . ولذلك فقد بقيت (لمحات) الموضوعية المزعومة في بحثه أقرب إلى الفكاهة والنكتة منها إلى البحث العلمي ، فعلى سبيل المثال كتب في الصفحات الأولى متحدثا عن (حسن البنا) بأنه الإمام الشهيد ، وقد كرر هذا التعبير مرات عديدة (69) ، لكنه يفاجئك عبر الكتاب بأن الإمام الشهيد ، ما هو إلا منافق مراوغ إرهابي عديم المبادئ .. إلخ ويقول مثلا : (في الوقت الذي كان يسلح فيه جيشه السري الخاص بالقنابل والديناميت والمدافع ، ويستعد به لأكبر حملة إرهاب شهدها تاريخ مصر الحديث ، كان يحاول أن يبث الطمأنينة في قلوب خصومه) . (70) ويضرب القارئ كفا بكف ، هل هذا زعيم إرهابي أم إمام شهيد ؟!! أم هذه نكتة ؟!! وعندما نتحدث عن (النكتة) أو المفارقة المضحكة ، فإننا نشير على سبيل المثال إلى أنه ضبط (الإمام الشهيد) يرتكب فضيحة أخلاقية وسياسية ، وهي ما عبر عنها الدكتور رفعت السعيد بقوله : (والحقيقة أن هناك من الشواهد ما يثبت أن البوليس كان يحمي حسن البنا بتعليمات من السلطات العليا) . (71) ووجه المفارقة أن مكتشف هذه (الفضيحة) هو نفسه الذي يتباهى علنا في المجالس هذه الأيام بأن (البوليس) يحميه ، بتعليمات من السلطات العليا ، وأنهم يوفرون له طاقم حراسة ، بل ومنحوه سلاحا حديثا !! وعلى نفس الوتيرة ، فقد كشف (فضيحة) أخرى ، وهي أن (الإخوان) كانوا يشون بالشيوعيين عند الحكومة ، ثم يتباهى هو علنا بأنه هو الذي وشى بالشيخ محمد الغزالي عند السلطة ، مما تسبب في منعه من الظهور في التليفزيون ؟ (72) ............ بيد أن الفضيحة التي يندى لها الجبين ، ويأسف لها الضمير الآدمي مر الأسف ، أن يلجأ الباحث والمؤرخ الماركسي (رفعت السعيد) إلى مضابط المحكمة العسكرية والشرطة لكي يقيم منها الأدلة على إدانة خصومه السياسيين ولإثبات التهم المختلفة التي (اطمأن ضميره) إلى إثباتها عليهم ، رغم اعترافه هو نفسه بأنهم تعرضوا للتعذيب الذي بلغت بشاعته حدا لم تعهده مصر في تاريخها الحديث كله ! والمثير للغرابة والذهول ، أن الرجل كان يمارس هذه (الفضيحة) ببرود أعصاب غريب ، ودون أدنى شعور بالحرج أو العار ، لقد استشهد مثلا بأقوال (منير الدلة) عضو مكتب الإرشاد في الإخوان المسلمين أمام النيابة العسكرية ، وبعد أن ساق كلمات السجين المعذب ، كتب ببرود أعصاب يقول : (ونتوقف أمام أكثر من علامة استفهام ترد في شهادة عضو مكتب الإرشاد العام) . (73) يا إلهي أي ضمير هذا ؟! وليتأمل القارئ معي وصفه لاعترافات السجين المعذب المنتزعة منه انتزاعا بأنها (شهادة عضو مكتب الإرشاد) ، لقد جعلها (شهادة) للتاريخ ، والحقيقية أنها لم تكن شهادة للتاريخ أمام الجلادين والقتلة ، ولكنها أصبحت شهادة على شيء آخر عندما استدل بها رفعت السعيد !! وهذا البرود الفاضح ، لم يتخل عند أبدا ، وهو يمارس (تعذيب) السجناء من جديد ، فقد عرض مقتطفات طويلة مما ورد في وقائع التحقيق والمحاكم العسكرية ، ثم كتب بعد ذلك معتذرا للقارئ بقوله : (ونترك هذا الحديث إذ بإمكانه أن يطول بغير حد فسلسلة اعترافات الإخوان أمام المحاكم لا تنتهي) !! (74) هل هذا معقول ؟! وهل هذا مما يحتمل منطق أو ضمير نسبته إلى البحث التاريخي ؟! لقد كانت (الفضيحة) تصل إلى حد أن يراجع القارئ قائمة المراجع والهوامش في نهاية الفصول ، فيجد أحيانا الصفحة بكاملها من أولها إلى لآخرها إشارات إلى محاضر التحقيق والمحاكم العسكرية وما أسماه (محكمة الشعب) !!! (75) ............. ومن أهم مفاتيح (التزوير) التاريخي عند (رفعت السعيد) عملية (تسقط) العبارات المنفلتة في صخب الخصومات والمعارك السياسية فينتزع هذه العبارات من خلفياتها ومن سياقها التاريخي والنفسي ، لكي يجردها كأدلة وشهادات تاريخية منسوبة لأصحابها . وحتى أقرب معنى هذه (الجريمة) من ذهن القارئ ، أضرب له هذا المثال ، صديقان ودودان ، نشبت بينهما ذات يوم خصومة وعراك ، وتطور الأمر إلى السباب والشتائم ، فالأول قال لصاحبه : أنت ابن زانية ، والثاني قال للأول : أنت ابن لصوص ، ثم تمر العاصفة ويتصالحا ويتغافرا ، فيأتي (باحث تاريخي جهبذ) مثل صاحبنا ، ليتسقط الكلمات النارية التي انفلتت في الخصومة ، ليؤكد في بحثه أن فلانا الفلاني ، أكد في شهادته أن علانا العلاني كان ابنا غير شرعي ، وهذه شهادة لا يمكن اتهامها ، لأنها صادرة من صديقه الحميم ، وهو من لا يتهم بشهادته فيه ؟!! وهكذا .. وما يقرب من ثلث كتاب رفعت السعيد عن (حسن البنا) هو من هذا الباب ، سواء في خصومته مع الوفد الذي أطلقت صحافته عليه اسم (حسن راسبوتين) ، أو خصومته مع أحمد حسين أو مع غيرهما ، فهو يتسقط العبارات الانفعالية الغاضبة والعابرة لكي يؤسس عليها مشهدا تاريخيا كاملا . وهذا الأسلوب هو أبعد ما يكون عن الأمانة والنزاهة ، ولكنها رحلة الثأر ، والتعامل مع التاريخ نفسية الخصم المتعصب والمتطرف ، لا بنفسية الحكم والقاضي النزيه ، والكتابة وفق قرار اتهام معد سلفا ، وهذا ما أوقف الدكتور رفعت السعيد في كل هذه الفضائح التي جمعها كتاب واحد . لقد كتب (رفعت السعيد) يصف تبرع شركة قناة السويس لبناء مسجد في الإسماعيلية شرع فيه (البنا) وبعض إخوانه ، وصفه الباحث النزيه بأنه دليل دامغ على أن القوى الاستعمارية كانت تدعم مخططات جماعة الإخوان المسلمين ؟! كما كتب (المؤرخ) يستدل بحوار فني في رواية لفتحي غانم ، ثم يعلق على ذلك بمنتهى العلمية !! قائلا : (والعبارة السابقة بالغة الدلالة فهي تسجد وتبلور فهم حكام مصر في مرحلة فشلت فيها كل مناوراتهم ..) . (76) كذلك ، فالدكتور (رفعت السعيد) يكثر من ممارسة لعبة (القص واللصق) في الوقائع التاريخية ، بحيث يمزق الصورة المتكاملة إلى قطع متناثرة ، مجردة من سياقها ومن خلفياتها ، ثم يعود إلى تركيبها ولصقها وفق الإطار الذي رسمه هو سابقا ، ليخرج بصورة جديدة تمام ، ووفق هذه الطريقة ، يمكن أن يتحول الزعيم السياسي الوطني إلى راقصة في شارع محمد علي أو العكس ! (77) وهذا أمر يطول تقصيه في الكتاب النموذجي لرفعت السعيد ، وإنما حسبنا أن نشرد القارئ إلى (مفاتيح) لعبة التزوير ، فإذا ما أمسكها بيده أو بعقله فإنه سيكتشف بسهولة أجرأ الأبحاث التي شوهت تاريخ مصر ، وجعلت الخلايا الماركسية هي الممثلة للمجرى الرئيس الذي يتمحور حوله تاريخ مصر ، وهي (القطب) الذي تدور حوله الحركة الوطنية المصرية منذ فجر النهضة !! هوامش: (63) الطبعة الأولى كانت بتاريخ 1977 م ، والأخيرة بتاريخ 1990 . (64) حسن البنا ، ص 14 . (65) نفسه ، ص 10 . (66) نفسه ، ص 14 . (67) حسن البنا ، ص 15 . (68) نفسه ، ص 231 . (69) على سبيل المثال ، ص 12 ، 14 ، 86 . (70) نفسه ، ص 135 . (71) نفسه ، ص 156 . (72) راجع : (ضد التأسلم) ، ص 221 . (73) حسن البنا ، ص 130 . (74) حسن البنا ، ص 215 . (75) راجع الصفحة رقم 230 ، كمثال . (76) راجع : ص 201 ، والرواية هي (الرجل الذي فقد ظله) ، وهذه هي المرة الأولى التي أعرف فيها أن القصص والحواديت يمكن أن تكون وثائق تاريخية ! (77) هناك العديد من الأفلام السينمائية فعلت هذا (العكس) ، وأخشى أن يعتبرها رفعت السعيد وثائق هي الأخرى !