ذات يوم جلس أبو جعفر الطحاوي صاحب المؤلف القيم (العقيدة الطحاوية) مع تلاميذه، وقص عليهم أنه كان يقرأ على المُزني فقال له يوماً: والله لا أفلحت. فغضب وانْفَلَ من عنده، وتفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وصار إماماً، فكان إذا درس وأجاب في المشكلات، يقول: رحم الله أبا إبراهيم لو كان حياً ورآني كفر عن يمينه). [القيادة: جاسم المهلهل] تأثرت كثيراً بهذه الأدبية لأنها أثارت في نفسي هذه الخواطر المرة: 1-الذكرى القاسية تترسخ في العقل الباطن؛ فتظهر على سلوكيات أصحابها عند أي حدث يثيرها. 2-كيف أثر هذا السلوك القيادي المتعنت من هذا الشيخ الجليل مع تلميذه النجيب لمجرد أن أخطأ!؟. 3-كيف أن هذا السلوك قد حرم مدرسته من عالم فذ واعد، هرب من معلمه المتساقط لزلاته، حتى احتضنته مؤسسة أخرى؛ وهي مدرسة أبي حنيفة؛ بمناخها الحر اليسير والمتسامح خارجياً؛ بل وداخلياً مع أبنائها؛ فتميز الطحاوي، وتميزت به مدرسته، فنماها ونمى أمة بأثرها!؟. 4-كيف أن عدم تطور ورقي الأتباع، قد يعود إلى عدم صبر المربي وسرعة يأسه!؟. 5-كم تخسر المؤسسات من جراء عدم اكتشاف مواهب أفرادها!؟. 6-كم هي جامدة وقاسية تلك المؤسسات التي تطرد مبدعيها ولا تحافظ عليهم!؟. المؤسسات الطاردة!؟: ثم كان نتاج هذه الخواطر؛ هو ذلك السؤال الذي أثرته في إحدي ورش العمل في دوراتي: ما هو السؤال الذي يدور في ذهنك الآن، وتريد أن ترسله سراً لمسؤولك؟!. وكانت المفاجأة أنني وجدت معظم الأسئلة تدور حول محور واحد؛ سأتركك لاكتشافه: 1-لِمَ لا توظفونني في مكاني؟!. 2-لماذا تتجاهلون قدراتي؟!. 3-من المسؤول عن الجهل بطاقاتي؟!. 4-حتى متى سأظل أعاني من هذا الخنق النفسي؟!. 5-أليس هذا هو القتل البطيء؟!. 6-لِمَ التركيز على أخطائي وتساقط زلاتي؟!. 7-لِمَ لا يشجعونني ولا يقدرونني ولو مرة؟!. الحصاد المر!؟: وكان الحوار يتركز حول النتئج المرة؛ والتي ظهرت عندما أجاب الحاضرون على هذا السؤال: ما هي الأساليب التي ستلجأ إليها عندما يتجاهل مسؤولك الإجابة عن سؤالك، أو عندما يستمر في ممارسة طريقته معك؟!. وكانت الإجابات كلها تقريباً تدور حول هذه الأساليب الدفاعية: 1-الانسحاب: فيؤثر الفرد السلامة وينزوي بعيداً عن هؤلاء القادة الجاهلون بقدراته، والمتجاهلون لإمكاناته!. 2-التمرد المقنع السلبي: حيث يميل الفرد إلى المشاغبة وإثارة المشاكل؛ فيميل دوماً إلى المعارضة، وانتقاد القرارات والشخصيات!؟. وكأنها رسائل: أنا هنا حتى تسمعونني. وقديماً قال مونتجمري حكمته الخالدة: الجندي الخالي يجيد المشاغبة. 3-التمرد الاستقلالي الإيجابي: فيتمرد الفرد على واقعه وعلى رؤسائه؛ فيبحث عن مجالات يجد فيها نفسه، ويبدأ مشواره الذاتي لتفجير طاقاته والبحث عن هويته؛ مع ارتباطه الرسمي بمؤسسته، واحترام أنظمتها وضوابطها. 4-الهروب الكبير: وهو الأسلوب الأخطر؛ حيث يهرب الفرد إلى من يفجر قدراته ويكتشف مواهبه خارج مؤسسته!؟. وينهي ارتباطه بمؤسسته كلياً، وإن كان يحمل لها الود والحياد. 5-ثأري وعدو للإيجار: وهو الأسلوب القاتل؛ حينما يتحول هذا الهارب إلى معاداة مؤسستة السابقة، ويبدأ في الثأر من أصدقاء وزملاء الأمس. بل وقد يشارك في أي حملة هجومية ضدها سواء تحت لافتته الخاصة، أو أي تحت أي لافتات أخرى، ويصبح بوق إعلامي ثأري وعدائي للإيجار!. وبعد؛ فهذا هي أسباب وآثار تجاهل فنون تكوين وتحفيز المبدعين. وكذلك حمايتهم من التمرد أو الهروب!؟. أما الحل فسنوضحه بعونه تعالى في الجزء الثاني. د. حمدي شعيب استشاري أطفال زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية