من أجمل ما قرأت في تعريف كلمة "الشهيد" قول للأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله في تفسيره (في ظلال القرآن) أن الشهيد: "هو من شهد أن دينه أغلى عليه من حياته". وها هو أسطول الحرية أو حملة كسر الحصار على غزة أو إن شئنا الدقة "قافلة شهداء الحرية" تشهد أن الحرية وحق الإنسان في حياة كريمة ووطن حر غير محتل أغلى عليهم من حياتهم. ختمت مقالتي الأسبوع الماضي بما كان يعلمنا إياه الراحل العظيم أستاذنا عبد الوهاب المسيري من أن الضمير الحيّ في شعوب العالم لا زال موجودا وأننا لابد أن نجتهد في صك وصياغة خطاب حضاري إنساني يجمع على قضية فلسطين مختلف أركان الدنيا الأربعة من محبي الحرية وأنصارها وأنصار حقوق الإنسان مطلق الإنسان. ومن قبل أسطول الحرية كانت راشيل كوري التي ماتت تحت مجنزرات جرّافة إسرائيلية عنصرية تماما مثل التي كان يقودها؛ ومثل من أمره بدهس هذه الزهرة البريئة في عالم الغابات والوحوش. تقف راشيل كوري بجسدها النحيل أمام جرّافات الفصل العنصري تقاوم ما وسعتها المقاومة تشهد أن حرية الإنسان - مطلق الإنسان - أغلى عليها من حياتها. وتضرب لنا المثل أن ضمير العالم الحر لا زال به رمق من حياة. حملت قافلة الحرية قافلة الشهداء ما يقرب من 750 إنسانا حرا ممن جاد بهم ضمير الإنسانية خاصة في هذا العصر بالغ الظلمة والمظلمة. 750 إنسانا من مختلف الملل والنحل والأعراق من حوالي 40 دولة. حملة مدنية سلمية تقول للظلم توقف؛ وتقول للنظام العنصري كفاك تجويعا للمحاصرين؛ وتقول للدولة الإرهابية أنك تعيشين وتعملين ضد منطق التاريخ وسنن الكون ونواميسه؛ واقرئي إن شئت عن قوانين سقوط وصعود الأمم والحضارات. ولن تكوني أيتها الدولة العنصرية أشد بأسا من الذين نحتوا من الجبال بيوتا فارهين. ولن تكوني أيتها الدولة العنصرية أشد طَوْلا ممن عمروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرتها ما يطلق عليه الحضارة الحديثة؛ وهي ليست حديثة إلا بمعيار الزمن؛ وإلا ما الحداثة في دهس إنسان بريء رفض وحشية الكيان العنصري تحت عجلات جرّافة أشد عنصرية من الذي يقودها. كان حبيبنا الراحل العظيم المسيري يبشرنا بزوال دولة "إسرائيل" وسقوطها كأنا رأي عين؛ كان يتكلم بيقين الواثق من ربه المدرك لسننه ونواميسه الثابتة في كونه. كان يستلهم روح الحضارة وإنسانية الإنسان وقدرته على تجاوز احباطات اللحظة الراهنة ومعادلات الهزيمة النفسية للغازي؛ وأن هذه الدولة المتجبرة المستقوية بالظهير الأمريكي ليست إلا جملة اعتراضية قصيرة في تاريخ الحضارات وحياة البشر؛ ولم تكن إلا هامشا على متنه ولن تكون أبدا نصا أصليا في كتاب الكون المسطور. كان يبشرنا المسيري عليه رحمات الله أن كل الجيوب الاستيطانية في العالم قد زالت؛ ولم تستمر إلا الجيوب التي قامت بإبادة السكان الأصليين أو الشعب الأصلي ولن يكون العرب المعاصرين هنودا حمرا. فالمرأة الفلسطينية النفوض (ومنها تعبير الانتفاضة) كثيرة الولادة التي تنجب للدنيا أبطالا يشهدون أن دينهم أغلى عليهم من حياتهم؛ وتنجب للدنيا مناضلين يشهدون أن حرية الإنسان وحقه في عيش كريم أغلى عليهم من حياتهم؛ هذه المرأة لا زالت تنادي: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم. إقرأوا إن شئتم عن أم نضال (مريم فرحات) تلك المرأة الفلسطينية البطلة التي استشهد أبنائها الثلاثة في عمليات ضد الاحتلال الصهيوني؛ أو محمود الزهّار الذي استشهد له ولدان؛ وهما (أم نضال والزهار) ليسوا استثناءا في التاريخ الفلسطيني المعاصر والحديث بل هم الأصل في شعب عصي على الاستئصال؛ شعب عصي على الإبادة؛ عصي على الترويض. يا شهداء الحرية: بكم تشرف الدنيا وبكم تستحق الحياة أن تعاش. يا شهداء الحرية يا من أثبتم أن إنسانية الإنسان لا زالت بخير؛ وأن فساد العولمة والعلمنة لم يتجاوز إلا غلالة رقيقة من مشاعر النفس الإنسانية. وأن الأصل الإنساني لا زال على فطرته؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فطرة الخير والحق والجمال. لقد أثبتم لنا أن الاستثناء الأمريكي والإسرائيلي أشرف على المغيب؛ ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.