أقل ما يمكن أن أصف به هذا الشيخ الجميل رحمه الله أنه أنموذج للمسلم الهاشٌّ الباش الودود، الذي تنفتح له القلوب بمجرد رؤيته، فإننا ما كنا نراه إلا مبتسمًا أو ضاحكًا مرحِّبًا. ويغلب على ظني أن أمه رحمهما الله ولدته هكذا على هيئته،لم يتغير؛ فلا أذكر أنني رأيته منذ عرفته أواخر السبعينيات إلا على ما أعرفه عليه: لحية بيضاء طويلة – كأنه ولد هكذا - وابتسامة عريضة، ووجهٍ جاذبٍ مرحِّب، وكلام لطيف، ودعاء بالخير، وسعي في الدعوة إلى الله تعالى، واجتهاد في إصلاح ذات البين. ورغم أن دراسته كانت بعيدة عن الدراسات الشرعية المباشرة - في العلوم، والكيمياء خاصة – وكان يدرسِّها بعد تخرجها في المدارس الثانوية – فقد امتاح الشيخ علمه الشرعي، ورؤيته الدعوية المتسامحة، من عدد من العلماء؛ ابتداء من عمه الشيخ عبد الله أحمد مرسي، ثم داوم على الدروس التي كان يلقيها الشيخ الدكتور محمد خليل هراس، والشيخ البليغ اللسِن عبد الرحمن الوكيل، والشيخ الدكتور عبد الفتاح سلامة، وعدد من شيوخ جماعة أنصار السنة المحمدية.. ثم من خلال رؤيته الشخصية وطبيعته السمحة الودود. وقد خدمه هذا الأمر في مسيرته طوال حياته؛ فكان داعية إلى الله تعالى على بصيرة وتوفيق، ووفق رؤية دعوية مميزة: فحين تولى رئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية كانت مبعثرة ضعيفة، على الأقل في مناطقنا، بلا علماء مستوعبين، ولا دعاة واعين، ولا مسؤولين ضابطين لمساجدها، ولا محتملين واجباتها، ولا قائمين بما ينبغي نحوها، فأحدث بوجوده انقلابًا في مفاهيم الجماعة، وطور من أدائها، ونشط مساجدها، و(ثوّر) شكل منبرها الإعلامي الوحيد (مجلة التوحيد) وأحدث كثيرًا من الحراك على مستوى مصر والخارج، وتواصل مع المشايخ والعلماء - خصوصًا الأزهر - وضخ دماء جديدة في الجماعة، حتى صار وجودها أظهر، وقدمها أرسخ، ورؤيتها أوضح، واستشرافها للأمور أفضل؛ رغم أنه رحمه الله تولى قيادتها في فترة شديدة الحساسية، مليئة بالتوتر والتخوف الرسمي من التيارات الإسلامية، بل والتربص بها، ورصد أنفاسها عليها، فقد كان عضو مجلس إدارة الجماعة مع بدايات التوتر ضد الإسلاميين أواخر عهد الرئيس السادات رحمه الله (1977) ثم صار أمين الدعوة بها عام 1988 وكانت مليئة بالأحداث بعد اغتيال الرئيس السادات رحمه الله، وتشديد الضغط على التيارات كلها، وتأميم المساجد - ومنها أنصار السنة – ثم تولى رئاسة أنصار السنة سنة 1992، والصخب ضد الإسلام قائم، والعلمانيون الشرسون لا يفتؤون يثيرون الزوابع، ويجتهدون لتحطيم كل شيء، فسار بأنصار السنة وسط ريح هوج، وتربصٍ وإرصادٍ، دون مصادمة، ولا اختلاف، ودون أن يعطي أحدًا فرصة للنيل من الجماعة وتاريخها ودعوتها ورموزها. كان ينتقل بدعوته كثيرًا للخارج، حتى أوربا وأميركا ودول الخليج، وكان يدعى إلى الدوحة كل رمضان أواخر عمره؛ لإلقاء محاضرات ودروس في مساجدها، فكان - ولله الحمد والمنة - إذا جاء يجعلني أول من يتصل بهم، وأول من يدخل بيوتهم في الدوحة، لطفًا منه وجبر خاطر - رحمه الله وأحسن عزاءنا فيه - ثم يكون المجلس بعد ذلك عامرًا بالحوار، والمراجعة، والتصويب، والدعابة اللطيفة الوقور، وأذكر أنه كان يشكو من السكر رحمه الله، فقال لي مازحًا، بمناسبة السكر: واحد راح للدكتور يفحص السكر، فلما حلله فزع، وقال: إيه يا حاج دانت بولك كله سكر! فرد الرجل ببراءة: شكرًا يا دكتور؛ إنت اللي بولك عسل! وكان دائمًا في حركة أثناء وجوده بالدوحة، يلقي درسًا بعد الفجر، ويدعى للمحاضرة في المدارس في الضحى، ويجتمع عنده المحبون بعد الظهر، ويلقي درسًا بعد العصر، ويفطر عند محب بعد أذان المغرب، ويحاضر بعد العشاء، ويسمر مريدوه معه هزيعًا من الله، وهو طوال الوقت باسم هاشٌّ باش، يلقي حكمة هنا، وتوجيهًا هناك، وطرفة هنالك، لا يشكو ولا يمل! وهذا هو المعنى الذي أشار إليه الشيخ الألباني رحمه الله، لما لقيه الشيخ صفوت، وشكا له أثقال الدعوة، فقال له: إذا استطعت أن تموت على ذلك فافعل! وقد فعل عليه رحمات الله! كان رحمه الله تعالى يعتمد الرفق والرحمة منهجًا للدعوة إلى الله تعالى، ويجعل توحيد الرب عز وجل أساس كل خير وغايته، ومبتدأ كل دعوة ومنتهاها، وهدف كل داعية وواجبه، ويرى أن كل كلام، في كل موضوع، على أي مستوىً، سيفضي بالضرورة إلى إخلاص التوحيد والقصد؛ لأنه لا مفر فيه من إخلاص التوحيد والقصد! وكان حسن التأتي في دعوته، موظِّفًا قبوله وابتسامته ليفتح قلوب الناس، ومما يذكر عن حسن تأتيه ما ذكره الأخ الشيخ محمد حسان أنه كان ذات سفر في أميركا، يجمع مالاً لأحد المساجد، وبعد أن دار على المتبرعين بنفسه، وجمع ما يسر الله به، قال: من سيدعوني للعشاء الليلة؟ فتسابق الموجودون كل يريد أن يحظى بشرف استضافته، فسأل عن أيهم سيطعمه طعامًا فاخرًا، فارتفعت الأيدي متسابقة متنافسة؟ يعني هاتكلفوا العشا بتاعي أد إيه؟ كم؟ 500 دولار. كم؟ 500 دولار؟ كم منكم سيعشيني بهذا المبلغ؟ فارتفعت الأيدي؟ فقال: عايز حقي ناشف، ليضع كل منكم المبلغ في الصندوق لصالح المسجد! وكان أن جمع مبلغًا لا جيدًا، بحسن تأتيه! ختم الله لعبده صفوت نور الدين بختام عجيب فيه ملامح حسن الخاتمة - ولا نزكي على الله تعالى أحدًا - ومن أهم هيه الملامح أنه مات بعيدًا عن بلده، وقد ورد أن العبد إذا مات غريبًا، قيس له ما بين مكان مولده ومكان موته في الجنة، كما أنه رحمه الله مات يوم الجمعة، عائدًا من الحرم، ناطقًا بالشهادة، وصلى عليه نحو مليون شخص في الحرم الشريف، مدفونًا في مكة، ورئيت له رؤى حسنة، فأية خاتمة خير، وأية ميتة!؟ وقد تواتر وصف ميتته، وكتبه غير واحد، ومن ذلك ما نشرته مجلة التوحيد في عددها الخاص عنه: إن من المعلوم من دين الإسلام أن الله تعالى إذا أحب عبدًا ادخر له عملاً صالحًا فقبضه عليه، وإن من تمام النعمة على الشيخ أن يسر له أداء العمرة، ومن العجيب أنه خرج من بيته - ولأول مرة - بلباس الإحرام ورأينا عينيه تذرفان؛ على غير ما تعودنا منه. وفى يوم الوفاة - وكان يوم جمعة - صلى الجمعة في الحرم المكي، ثم ذهب إلى المسكن، وبينما هو على بابه إذ شعر، بألم فأخذ يهلل ويقول: لا إله إلا الله - ثلاث مرات - ثم توجه بنفسه إلى القبلة، ونام على شقه الأيمن، ثم شرب جرعة من ماء، وردد بعدها الشهادة، ثم فاضت روحه رحمه الله. ويسر الله له رفقاء من أهل العلم والصلاح، فقاموا بغسله وتجهيزه، وقد صلى عليه في الحرم الشيخ صالح بن حميد، في جمع غفير من أهل التوحيد والإيمان، فانظر أي نعمة هذه في بلد الله الحرام، يدفن وفى المسجد الحرام يصلى عليه، وقبلها بأيام لبس ملابس الإحرام، وأدى عمرته، وآخر ما تلفظ به: لا إله إلا الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة... ويشهده جمع هائل حتى امتلأت ساحات الحرم عن آخرها، ثم تُرى له الرؤى الصالحة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات؛ إلا الرؤيا الصالحة، يراها المؤمن أو ترى له) ومن ذلك أن إحدى بناته في اليوم الثاني من وفاته ترى له رؤيا خير: رأت أنها هي تجلس مع أخواتها، إذ قالت لهن وهي تبكي: وهل يعوض الأب!؟ فدخل الشيخ عليهم، وقال لها اسكتي، فقد أعطوني قصرًا من ذهب في الرياض. فقالت زوجه له: لا تذهب الآن اذهب في رجب. لقد ترك رحمه الله فراغًا، وخلّف آثارًا، وأبقى في قلوب محبيه اشتياقًا لا يرويه إلا مرآه، وأنى لنا برؤيته؛ إلا أن ندعو أن يجمعنا الله تعالى به ، في مجالس فردوسية ناعمة، نزور فيها الدكتور الفقي، والدكتور الهراس، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، وابن باز، وابن عثيمين.. والغزالي، والشعراوي، وإبراهيم عزت، وجاد الحق، وغيرهم من أهل الخير والتوفيق، نتزاور، ونتذاكر الدنيا وقسوتها، وتفضل الله علينا بالرضا، وننعم بأنعم النعيم: بالنظر لوجه الله الكريم.. أرجوك قارئي المبارك: ادع لي ولنفسك ولوالدينا وأحبابنا بهذا الفضل العظيم..