"هي عصاي أتوكؤ عليها".. صمت برهة وأكملت: "ولي فيها مآرب أخرى".. كانت هذه إجابتي عن سؤال الزميل الصحفي الأستاذ مجاهد خلف، رئيس تحرير "عقيدتي": ما تلك بيمينك يا خضر"؟ مشيرًا إلى صورتي وأنا متكئ على العصا أثناء مرضي الأخير، بعد أن نشرها الزميل الحبيب د.أشرف سالم في الآفاق وجعلها مثار تعليقات حب لمحبي كاتب هذه السطور. ورحت أتذكر المآرب الأخرى فوجدتها كثيرة، بعد أن أصبحت متكئي ومساعدي الأيمن في مضجعي ورفيقي في سيري وقيامي وقعودي ونومي ويقظتي، فأنا مثلاً أضعها على عاتقي وأمسك طرفيها بيدي وأنا أمشي في مكاني في صورة غريبة تشعرك بشعور محبة ووشجية قديمة لتلك العصا، التي تكون لك نعم الصاحب ونعم المعين "في السراء والضراء وحين البأس"، وفي جلوسي ألاعبها بحركة سريعة بين أصابع يدي الخمسة في حركة دائرية سريعة تنتقل فيها العصا من إصبع لآخر دون أن تقع أو تنفلت من كف يدي، في صورة تستجلب ضحكات صغيرتي التي تراقب الموقف وهي تشرئب بعنقها إلى حركة العصا، وتقول: "أموت واعرف كيف بتعمل هذه الحركة".. حتى "كيس العلاج" الذي يبعد عني في طرف المنضدة أسحبه بها، وأعيده لمكانه بعد ذلك بها، و"شاحن الآي فون" الملقى أحيانًا أرضًا بعيدًا عني أسحبه بها، ومفتاح الكهرباء الذي يعلو رأسي ولا أستطيع أن أقف له، أطفئه بها وأفتحه بها.. وهي رفيقي في الحمام الذي لا يمكن أن يرافقني فيه غيرها لتكون مسندي ومتكئي وثالث ثلاثة مع قدماي في الدخول والخروج.. تأملت جملة "مآرب أخرى" فوجدتها جملة مطاطة تحمل الكثير من الفوائد، التي كانت ولا تزال تؤديها العصا، كما كانت تؤديها قديمًا للقدماء المصريين الذين اهتموا بها وزينوها بالجواهر والمعادن الثمينة، وأوصى الكثير منهم أن تكون رفيقتهم في توابيتهم وقبورهم، وكذلك أبناء القبائل في الصعيد أو في الأرياف، أو في بعض البلدان الخليجية التي تعتبر العصا جزءًا من الشخصية العربية ولازمة من لوازمها في رقصاتهم الشعبية وعرضاتهم وأفراحهم ومناسباتهم. استدعيت ذكرياتي مع العصا في صدر الشباب، فأتتني تسعى، وكأنها فرحة بهذا الاستعداء؛ معتبرة أن هذا يعد صلة للرحم لتلك العصا، بعد طول انقطاع عنها.. فقد عنّ لي أن أحمل عصا خفيفة لها رونق الشباب وليس كعصي الفتوات وأهل "النبابيت" مفردها "نبوت" أو "الشوم" مفردها "شومة" - وفي لهجة صعيدية "الشوبة" جمعها "شوب"- وكنت في زيارة مع صديق لي لشاعر كبير وأديب ذي خلق جم وثقافة عالية، وهو المرحوم الأستاذ محمد أمين الشيخ، التي كنا نلقبه بالحاج هلالي، وكان حديث الأدب والشعر، سبب زيارته، وليس لأنه رجل كانت له مكانته في الاتحاد الاشتراكي يومها، وليس شيء يومها إلا الاتحاد الاشتراكي ورجاله، فهم أهل العزوة والمنعة والقصد، كان الرجل يحبني جدًا ولي معه مواقف أدبية جميلة، فرحب بي بعد أن سبقتني إلى بابه عصاي، ويومها استنكر صاحبي الذي يرافقني حملي للعصا أمامه، ولم يحل له الاستنكار، إلا أمام الرجل وفي بيته، مع أنه صحبني مئات الخطوات وعشرات الشوارع حتى وصلنا بيته، وهو يراها تهتز في يميني وتخط الأرض خطًا.. كنت أتوقع أن يعضد الشاعر المسئول كلامه ويلقي باللوم علي أن أحمل عصا وأنا في ريعان الشباب، غير أنه أيدني في ذلك ورد كلام الصديق عليه، ففرحت ساعتها لانتصاره لعصاي قبل انتصاري لنفسي أمام صاحبي المتحذلق. تذكرت أيضًا عصاي في صدر شبابي، وقد علمني بها كبار محترفي لعبة "العصا" أو "التحطيب" الشهيرة في الصعيد، وهي من الموروثات القديمة، قدم تاريخ القدماء المصريين أنفسهم، وأنا أشمر عن كمي وأتشبث بها تشبث الفارس بسيفه، أمام خصمي، رافعها لأعلى أو متخذها درعًا واقيًا لرأسي أو جنبي الأيمن والأيسر حسب حركة الخصم، ثم أهتز بها راقصًا يمينًا ويسارًا، في حلقة دائرية مثل عقارب الساعة مع خصمي، ثم قفزة لأعلى في جو السماء (طبعًا لو جابوا لي بلدوزر اليوم عشان يرفعوني به لم يستطيعوا الآن)، ثم أنزل على الخصم فأضرب عصاه الذي يحمي بها نفسه فسقط منه أرضًا ثم ألمسه بعصاي في جنبته أو على عمامته لمسًا خفيفًا، بما يعني أني فزت عليه، فينسحب من الحلبة ليقارعني غيره في دور آخر، ربما يكون نصيبه نصيب الأول، وهكذا دواليك ما لم يكن هناك معلم كبير من كبار اللعبة، فنأخذها من قصيرها ونجبن أن نلاعبه مخافة أن تكون ضربته لنا قاسية دامية، وليست حانية مثل ضرباتنا الخفيفة. وما دمنا في ذكر العصا ومآربها الأخرى فتعالوا أذكركم ببعض مواقف جميلة للعصا، كانت أولاها في "الوادي المقدس طوى" في سيناء الحبيبة ومع كليم الله موسى عليه السلام، وهو وحده مع ربه، بعد أن ابتعد عن أهله جانبًا، وساعتها لم تكن هناك "فلاشات" تصور ولا "فضائيات" تنقل المشهد الأخطر لدور العصا، الذي سيغير مجرى التاريخ في مصر؛ بإزالة ملك فرعون وتمكين المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها التي بارك الله فيها في مصر.. كانت هذه البروفة لعصا موسى التي خاف هو نفسه منها "ولى مدبرًا ولم يعقب"، ثم أتى دورها الأشد خطرًا وأهمية وقوة وتصديقًا لحاملها، موسى عليه السلام، أمام بطش فرعون الطاغية وظلم الجبار في الأرض، في "يوم الزينة" يوم التقفت عصي السحرة أمام فرعون والحشود المحتشدة من المدائن العديدة، التي قالوا "لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين"، ولم يملك السحرة ساعتها سوى السجود لله رب العالمين قبل أن يأذن لهم فرعون أو يأخذ قراره بالتصديق من عدمه.. أما العصا ومواقفها السياسية، فهناك موقفان سياسيان ساخران عجيبان مضحكان، كانا لهما في القديم والحديث من أمرهما عجبًا، ولعلهما كان الأشهر في تاريخ وحكايات العصا سياسيًا وأدبيًا.. نسردهما مع ذكريات أخرى عذبة عن العصا، غدًا - بعون الله - نظرًا لضيق المساحة. ◄◄ قال الحكماء فليعلمِ الكتّاب والأدباء، والواصفونَ أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً.. فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسنهُ أو يُستحسنُ منهُ، فلا يُعجبنّ إعجاب المخترع المبتدعِ، فإنه إنما اجتناهُ كما وصفنا".. (ابن المقفع) دمتم بحب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.