بعد منتصف الليل، وعلى امتداد أحد الطرق السريعة الخالية تمامًا من المارة، بالقرب من هذه المدينة المتداعية الأسبوع الماضي، رأى الرقيب أول جيسون هوفر ما بدا وكأنه حبل صيد سمك مشدودًا عبر الطريق، الأمر الذي دفعه إلى إيقاف عربته الهمفي فجأة محدثًا صريرًا هائلاً. لقد كان الحبل مربوطًا بقذيفة مدفعية روسية قديمة مدفون نصفها في الجانب الشرقي من الطريق ومعدة للانطلاق لدى جذبها بقوة. لقد قام هوفر بتتبع مسار الخيط لمسافة نصف ميل تقريبًا؛ حيث اجتاز حقلاً زراعيًا، ثم عبر طريقًا سريعًا آخر، ثم عبر ترعة صغيرة، عندها وجد أربعة عراقيين من شرطة البنية التحتية الذين من المفترض أنهم يقومون بحماية أحد خطوط أنابيب النفط. لقد زعم هؤلاء الرجال أنهم ليس لديهم أية فكرة عما يفعله هذا الخيط هنا. وقال هوفر [26 عامًا] من مدينة نيويورك بولاية أوهايو: "هناك صنفان من العراقيين هنا، منهم من يساعدنا ومنهم من يطلق النار علينا، وهناك أعداد هائلة من كلا الفريقين". وأضاف هوفر: "هل يدعو هذا إلى الشعور بالإحباط؟! نعم.. إنه كذلك. ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نتوقف عن التعامل معهم". ويعد هذا الحادث نافذة على النتائج المتباينة التي أسفرت عنها الجهود الأمريكية لتدريب القوات العراقية. فقد قامت القوات الأمريكية بعمل المستحيل في العديد من الجيوب السنية، وذلك أثناء محاولاتها كسر شوكة مدينة الحويجة الشمالية التي تكثر بها الاضطرابات، وذلك حين أنها تمكنت من إقامة قوات أمن من عدد من المتطوعين المحليين، والآن يتولى حراسة المنطقة أكثر من 1500 من الجنود العراقيين و2000 من رجال الشرطة، جميعهم ينتمون إلى هذه المدينة أو إلى القرى الرعوية المحيطة بها. وعلى الرغم من ذلك، فقد تنامى لدى الجنود الأمريكيين في تلك المدينة التي يعارض سكانها المحليون الوجود الأمريكي في العراق، شعور مترسخ من الارتياب في نظرائهم من القوات العراقية، وذلك عقب حدوث عدد كبير من الوقائع التي تشير إلى تواطؤ تلك القوات التي يقومون بتدريبها مع عدوهم. ويقول المقدم كول مارك هوتسون - قائد قوات اللواء الأول التابعة للفرقة 101 المحمولة جوًا-: إنه في شهر نوفمبر تم حبس عدد كبير من قادة الجيش العراقي المحلي في هذه المدينة في سجن "أبو غريب" بتهمة إرشاد عناصر المقاومة عن الطرق التي تسلكها القوافل الأمريكية، كما تم فصل رئيس شرطة المدينة من عمله واعتقاله في شهر يناير؛ بسبب رفضه تعقب الجماعات المسلحة. وفي وقت سابق من هذا الشهر، ألقت إحدى فرق القناصة الأمريكية القبض على 14 من رجال الشرطة أثناء قيامهم بزرع قنابل على جانبيْ الطرق في حي الرياض القريب. كما تم إدراج أسماء أكثر من 60 آخرين من ضباط الشرطة في قائمة الموضوعين تحت المراقبة للاشتباه في تواطئهم مع عناصر المقاومة، وذلك طبقًا لما صرّح به رجال الشرطة العسكرية الأمريكية التي تتولى تدريبهم. وفي الأسبوع الماضي، اندلعت نيران هائلة من خط أنابيب نفطية يقع على بعد 50 قدمًا من أحد نقاط التفتيش بعد أن تم تخريبه، مغطِّيًا السماء بغطاء كثيف من الدخان الأسود. وتقع مدينة الحويجة في تلك المراعي الخضراء التي تنتشر على جانبيْ نهر زاب، على بعد حوالي 175 ميلاً شمال بغداد، إلا أن شوارعها مليئة بتلك الثقوب والحفر التي تشبه فوهات البراكين، والتي نتجت عن قنابل الأرصفة المنفجرة، كما أن بها شبكات من القنوات البدائية لتصريف مياه الصرف. أما جدران المدينة فتمتلئ بالرسوم التي تمجّد مآثر الجماعة المعروفة ب"أبطال الحويجة" من عناصر المقاومة، والتي تعتبر أشرطة الفيديو التي تصوّر الهجمات التي يقومون بها ضد القوات الأمريكية أكثر السلع رواجًا في أسواق المدينة. أما بالنسبة لسكان المدينة، فأغلبهم من السنة، فقد كانوا في وقت ما مهيمنين على الرتب والمراكز العليا في جيش صدام حسين وحزب البعث. ولكن ما حدث لهم منذ الإطاحة بصدام حسين على أيدي الاحتلال الأمريكي من تدهور لأوضاعهم أصابهم بالإحباط، وخصوصًا أن هذا تم على أيدي الأكراد العرقيين الذين يسيطرون الآن على السياسة في العاصمة الإقليمية كركوك. ويقدّر القادة الأمريكيون معدل البطالة في تلك المدينة بحوالي 90%. لقد أدى الغضب والتذمر إلى ظهور مقاومة عنيدة تولدت من داخل المدينة نفسها - لم يتم العثور إلا على عدد قليل من المقاتلين الأجانب في تلك المدينة - والتي ألحقت الكثير من الخسائر بالقوات الأمريكية. ومنذ أن وصلت الفرقة الأولى المقاتلة قبل ستة أشهر لتولي حراسة منطقة كركوك، لقي 11 من جنودها مصرعهم، 10 منهم كانوا ينتمون إلى الكتيبة التي تتخذ من بلدة الحويجة مقرًا لها. ذلك في حين أصيب على الأقل 64 من أعضاء الكتيبة، تقريبًا واحد من كل عشرة منهم يتمركزون في هذه المدينة. كما تعرضت قافلة هوتسون، قائد الكتيبة، لعشرة انفجارات من قنابل الأرصفة، ستة من بينهم استهدفت عربة الهمفي الخاصة بهوتسون شخصيًا، وهو ما يعتبر عددًا كبيرًا بالنسبة لضابط كبير مثله. يقول هاتسون - الذي يتردد من حين لآخر على المركز الطبي التابع لقاعدته للحصول على حقنة مسكنة لتخفيف آلام كتفه الذي جرح عندما انقلبت عربته في الهواء أثناء إحدى الهجمات-: "هناك بعض الأماكن التي يخفي السكان بها حقيقة أنهم لا يحبوننا. ولكن سكان هذه المدينة لا يخفون حقيقة شعورهم هذا". لقد زعم القادة الأمريكيون طويلاً بأن تقوية الجيش والشرطة العراقية هو المفتاح لتأمين البلاد، وبالتالي للانسحاب النهائي للقوات الأمريكية من العراق. ويقول الضباط الأمريكيون الذين يقومون بتدريب القوات المتمركزة في مدنية الحويجة أن أداء هذه القوات تحسّن في الأشهر الأخيرة إلى درجة أنهم صاروا يتولون من حين لآخر قيادة عمليات مواجهة المقاومة، كما أنهم أصبحوا لا يفرّون من المعارك القتالية مثلما كانوا يفعلون من قبل. ويستدل الضباط الأمريكيون على هذا بأن القوات العراقية نفسها صارت مستهدفة من قبل المقاومة. ويقول أحد الضباط الأمريكيين العاملين في هذه المدينة: "إن هذا يبدو أمرًا عجيبًا، ولكن في الآونة الأخيرة لقي المزيد من رجال الشرطة حتفهم، وهذا يعني أن بعضهم صاروا يقومون بتأدية وظيفتهم أخيرًا". ولكن الشكوك المثارة في ولاء القوات العراقية للولايات المتحدة تعطِّل الجهود المبذولة لإلقاء المزيد من المسئوليات على عاتق هذه القوات. يقول الرقيب أول ريان هورتون [28 عامًا] وهو شرطي عسكري من مدينة دالاس يعمل مباشرة مع الشرطة العراقية: "إن هذا يشبه قسم شيكاغو في العشرينيات، من حيث هيمنة رجال العصابات عليه، إلى الحد الذي دفع الخيرين منهم إلى أن يصيروا أشرارًا خوفًا من القتل". وأضاف هورتون: "إنهم يعيشون جميعًا في مجتمع واحد مع "الإرهابيين"، لقد تمكنوا من بث الرعب في قلوبهم". وقال هورتون: إنه عندما يكلِّف الضباط العراقيين بمهمة ما، فإن ملاحظاته لهم لا تتجاوز دقائق معدودة، كما صرح بأنه لا يخبرهم مطلقًا عن المكان الذي سيذهبون إليه لمنعهم من إرشاد عناصر المقاومة. وأضاف هورتون: "لقد رأيتهم يضحكون عندما نعود بعربات مدمرة إثر تعرضها لانفجار إحدى القنابل". ثم قال: "كما رأيتهم يقفون على بُعد عشرة أقدام دون أن يفعلوا شيئًا، بل يكتفون بمراقبتنا ونحن في خضم المعارك النارية". وفي ذلك المركز القذر في وسط مدينة الحويجة الأسبوع الماضي، طمأن الرائد غازي أحمد خليفة - قائد المركز - هورتون وفريقه، أثناء احتسائهما للشاي المحلى بالسكر، بأن الأمن مستتب والأمور تسير على ما يرام في المدينة ذلك اليوم. ولكن عندما طلب هورتون من بعض الضباط العراقيين مرافقته في جولة بالعربة خلال المدينة، همس خليفة بشيء ما في أذن المترجم. يقول هورتون: إن قائد المركز "تذكر فجأة أنه بلغته أنباء عن وجود أجهزة التفجير المحسنة"، أو ما يسمى بقنابل الأرصفة. وأضاف هورتون: "لو أننا لم نطلب من رجاله أن يأتوا معنا - ما يعرضهم للخطر - فإنه لم يكن ليخبرنا بهذا على الإطلاق". ويحكي الجنود الذين يعملون مع الجيش العراقي هنا عن مشكلات مماثلة. فقد تم تعنيف الجنود العراقيين على قيامهم ببيع المعدات والذخائر الحربية التي تصدرها الحكومة في أسواق الأسلحة المحلية، وكذلك على قيامهم برهن أحذيتهم الحربية، ليظهروا في أثناء تأدية مهام وظيفتهم بأحذية من الجلد الناعم. وقبل أن تقوم إحدى الدوريات التي تمر عبر الطرق السريعة بالبحث عن قنابل الأرصفة الأسبوع الماضي، رفضت وحدة عراقية مصاحبة الجنود الأمريكيين في عربة الهمفي الأمريكية، والتي توفر حماية من تفجيرات القنابل أكثر بكثير من الحماية التي توفرها الشاحنات الصغيرة غير المدرعة، والتي يستخدمها عادة الجنود العراقيون. وفي تفسيره لهذه الظاهرة، هزّ العريف غازي محمد [25 عامًا] رأسه وهو يحدق في الأرض، ثم قال: إن رجال الدين بالعراق أصدروا فتوى تقضي بأن العراقيين الذين يقتلون في "عربات المحتلين" لن يدخلوا الجنة. عندها قال قائد الدورية، الملازم أول هارون تيبلمان [23 عامًا]: "أعلم رجالك أنهم إذا رفضوا الركوب معنا في عربات الهمفي فإنهم سوف يتم حبسهم لمدة عشرة أيام، وهذا ليس أمرًا اختياريًا". وأضاف تيبلمان بعد أن لان العريف العراقي وأمر رجاله بالصعود إلى العربة: "إن غايتهم هي أن يكونوا قادرين على الادعاء بأنهم ليسوا متحدين معنا". وبعد حوالي ساعة، مرّت عربة الدورية بحقيبة بيضاء موضوعة على جانب الطريق؛ ما أثار اشتباه تيبلمان في احتوائها على قنبلة. وعندما طلب تيبلمان من بعض الجنود أن يقوموا بتحريكها عن الطريق، رفض قائدهم هذا، قائلاً: إن هذه ليست وظيفته. لقد زاد هذا القول من غضب تيبلمان الذي رد بقوله: "وظيفتك هي أن تقوم بحماية الشعب. يمكنني أن أذهب وأبعد هذه الحقيبة بنفسي، فما الذي تراه؟! سوف أفعل هذا، ولكن ألا تعتقد أن شعبك يجب أن يراك وأنت تفعل هذا. في يوم ما لن نكون هنا لنفعل ذلك نيابة عنكم". ولكن الجندي العراقي أصر على عدم الذهاب لإبعاد الحقيبة، ثم اعتذر وانطلق بسيارته مبتعدًا. وعلى الرغم من أن القادة العراقيين يقولون: إن هناك تطورًا في أداء القوات العراقية، إلا أنهم أقروا بأنه في أغلب الأحيان تكون هناك ازدواجية في ولاء هذه القوات على أحسن تقدير. ويقول المقدم عبد الرحمن صيقران [42 عامًا] الضابط التنفيذي للكتيبة الأولى بالفرقة الرابعة بالجيش العراقي: "هناك حساسية بين الجنود فيما يتعلق بالاحتلال". يذكر أن هذه الكتيبة تتخذ من مجمع المباني المحاط بالأشجار في شرق مدينة الحويجة مقرًا لها، وقد كان هذا المجمع مملوكًا فيما سبق لعلي حسن المجيد، ابن عم صدام حسين، والملقب ب"علي الكيماوي" بسبب الأوامر التي أصدرها بشن هجمات باستخدام غازات كيماوية؛ ما أودى بحياة الآلاف من الأكراد في الثمانينيات. وعندما سئل عن الاتهامات التي تشير إلى أن بعض رجاله يقوّضون جهود توفير الأمن، فسَّر صيقران هذا بقوله: "تذكروا أن هناك منظمة أخرى تؤثر على الشارع، وهم "الإرهابيون"، حيث إنهم يمدون الناس بمعلومات مغلوطة". لقد أصبح هناك شعور متبادل من العداوة بين القوات العراقية وجنود التحالف. فبعد أن قامت القوات الأمريكية باعتقال بعض عناصر الشرطة منذ أسابيع قليلة مضت، قام ضباط آخرون بتعليق لافتة كبيرة بيضاء على أحد الجسور في وسط المدينة، عليها كتابة باللغتين العربية والإنجليزية تقول: "ترفض شرطة الحويجة أن ترافق قوات التحالف في الدوريات المشتركة في مدينة الحويجه؛ لأن الشرطة وظيفتها حماية الشعب وليس حماية جنود التحالف". كما رفض الزعماء السياسيون المحليون النداءات الأمريكية بالتعاون معهم من أجل تحسين الوضع الأمني. فقد قام ممثلو منطقة الحويجة مؤخرًا بمقاطعة المجلس المحلي في كركوك. وأعلن العقيد ديفيد آر جراي - قائد الفرقة الأولى المقاتلة - في خطاب ألقاه الأسبوع الماضي في غرفة مليئة بالمحافظين وأعضاء المجلس، أنه وافق على تمويل 15 مشروعًا من مشاريع إعادة الإعمار بتكلفة حوالي 3 ملايين دولار. ولكن قال: إن توفير بيئة آمنة بشكل كافٍ لتنفيذ هذه المشاريع تعتبر بصورة جزئية مسئولية السكان أنفسهم. ويقول جراي [48 عامًا] من مدينة هيرشر، بولاية إلينويز الأمريكية: "لقد أخبرني الكثيرون منكم أن الهجمات هي من عمل المتطوعين الأجانب". وواصل كلامه قائلاً: "أيها السادة، إنني ألخص كلامي في أن المشكلة ليست في المقاتلين الأجانب، ولكن المشكلة في قبائلكم نفسها، وبما أن المشكلة نابعة من داخل قبائلكم، فإن الحل سوف يكون في أيدي جميع الحاضرين منكم في هذه الغرفة". وعندما غادر العقيد المكان متوجهًا بسرعة لحضور اجتماع آخر، ضجت الغرفة بالغضب. وقال سامي العاصي - أحد زعماء القبائل-: "دائمًا ما يُتهم العرب بأنهم جزء من "الإرهابيين". ثم نقر بإصبعه على المنصة، مؤكدًا كلامه، في حين أومأ زملاؤه برءوسهم تعبيرًا عن موافقتهم له. وقال روحان سيد - رئيس الاجتماع-: "إن كل ما تفعلونه هو أن تأتوا إلى منطقتنا وتلقوا القبض على ضباط الشرطة والجيش". ثم قال روحان: "كيف يمكن لهم أن يقاتلوا عناصر المقاومة إذا كان هذا هو نوع المعاملة التي يلقونها؟!" ولكن هاتسون - الذي حل محل جراي بعد مغادرته - حذّرهم بقوله: "إذا بلغني خبر عن أن أحد رجال الشرطة قد أخطأ في عمله، أو أنه تعاون مع المقاومة، فإنني سأقوم بإلقاء القبض عليه". ويقول كل من جراي وهتسون أنهما فكرا في نقل كتيبة الجيش العراقي من كركوك إلى مدينة الحويجة، تلك الكتيبة التي تتكون من قوات أمن من الأكراد بشكل أساسي. ولكنهما أقرا أن هذا الإجراء من شأنه أن يثير استفزاز الشعب الثائر بالفعل بسبب رغبة الأكراد في ضم المزيد من الأراضي وإخضاعها لسيطرة الإقليم الشمالي الذي يعتبر منطقة حكم ذاتي كردية بصورة شبه كاملة. ويقول صيقران - الضابط التنفيذي لكتيبة الجيش العراقي-: "هذا سوف يكون كارثة فعلية؛ وذلك لأن السكان سوف يلجئون إلى استخدام العنف تعبيرًا عن رفضهم، وهذا من شأنه أن يشعل حربًا أهلية". هذا في حين يرى فريق آخر من الضباط الأمريكيين أن هناك وسيلة أفضل تتلخص في سحب كل القوات الخارجية وترك مسئولية حماية المدينة لقوات الأمن المحلي. يقول تيبلمان: "أحيانًا أشعر أننا نقدم لهم فقط ما يطلقون عليه النار. ولكن عندما نغادر المدينة، فإن كل هذا سوف ينتهي". وأضاف: "ولكنهم حينئذ سوف يتولون هم المسئولية" المصدر : مفكرة الاسلام