الهوس الإعلامي الناتج عن قيام إثيوبيا بتحويل مجرى النيل الأزرق منذ أيام، تمهيدًا لبناء سهد النهضة، لاشك أنه هوس غير مسبوق فى تاريخ الأزمات المائية في حوض النيل، الكل يتحدث في الموضوع بوعي ومن دون وعي أحيانًا، وكأن الموضوع جديد تمامًا على المصريين، عشرات الأحاديث التليفزيونية والإذاعية والمؤتمرات والندوات عقدت حول الموضوع من قبل، ولم تؤثر في الناس قدر التأثير الذي نتج عن الخطوة الإثيوبية الأخيرة بتغيير المجرى والاحتفالات المصاحبة لها، فقد حشدت تلك الخطوة العامة والخاصة للحديث حولها ومناقشة تفاصيلها، قلقًا على مستقبلهم، ومستقبل زراعاتهم وطاقتهم ومشروعاتهم، ربما يكون هوس الشارع المصري ناتج من التركيز الإعلامي على الإجراء الفني الذي قامت به إثيوبيا، وكأنها قامت بقطع المياه فعليًا، أو لديها القدرة على حجزها عن مصر مرة واحدة. فالإجراء الإثيوبي تم عقب زيارة الرئيس محمد مرسي، لحضور القمة الإفريقية والاحتفال بمرور 50 عامًا على إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، فلم تراع الدولة المضيفة قواعد البروتوكول والمجاملة الدبلوماسية، فأطلقت مشروعها بعد مغادرته إياها بساعات، وربما يكون الهلع الإثيوبي من الصعود الإسلامي عقب ثورات الربيع العربي، وإمكانية تأثيره على مسلميها، هو السبب الرئيسي في اختيار هذا التوقيت، فإذا كانت إثيوبيا قد خشيت من عبد الناصر وتأثيره على مسلميها في الخمسينيات والستينيات، فما بالك من شخصية الرئيس مرسي، ابن التيار الإسلامي الصاعد في مصر والعالم العربي، فالخشية باتت مضاعفة، والقلق أصبح مركبًا، فالمسلمون الإثيوبيون يتطلعون للاستفادة من هذا الصعود بفارغ الصبر، فلديهم مظالم لا حصر لها من تشكيلة السلطة القائمة هناك، والتي لا تتيح لهم أي مجال للصعود والترقي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. موضوع سد النهضة بدأ في إبريل سنة 2011، على خلفية الدراسات الأمريكية التي قدمت هدية لإثيوبيا منذ الستينيات عقابًا لعلاقات عبد الناصر الجيدة بالاتحاد السوفيتي تلك الدراسات التي وضعت خطة لإقامة 34 سدًا على الأنهار الإثيوبية، ما يعنينا منها السدود الأربعة التي تنوي إقامتها على النيل الأزرق الذي يأتي لنا ب85% من المياه سنويًا في موسم الصيف، إذًا موضوع البناء هو موضوع قديم جدًا، لكن الجديد في الأمر هو تحويل المجرى وتوقيته، فمنذ الإعلان عن البدء في المشروع في إبريل 2011 لم يتم إنجاز أي شيء إلا هذا التعيير في المجرى، وإنشاء كوبري علوي على النهر لتسهيل عملية البناء ونقل المعدات والإمدادات المطلوبة، وإقامة بعض ثكنات العاملين في المشروع، لهذا فإن موضوع تحويل المجرى يجب ألا نهتم به ويشغلنا كثيرًا، وننسى الاهتمام بموضوع السد نفسه، ومعامل الأمان الضعيف المتوفر لديه، علينا أن نتعرف على تفصيلاته وإمكانياته وتمويلاته والمستفيدين منه إقليميًا ودوليًا، علينا أن نتعرف على عمره الافتراضي في ضوء معامل الأمان الضعيف في موقع بنائه في منطقة تكثر بها الزلازل والكهوف الصخرية، وبالتالي فإن فرصة تخزين المياه أمامه وحوله، لا يتيح الفرصة لإثيوبيا للاستفادة منه، فمساحة الأرض المتاحة بعد تخزين المياه، وتكوين بحيرة بطول 150 كم أمامه تصبح قليلة للغاية، وتجعل فكرة البناء ما هي إلا نوع من المكايدة السياسية فقط، فالاستفادة لن تكون إلا في الكهرباء الناتجة عنه. وإذا كانت إثيوبيا لا تعترف بالاتفاقيات التاريخية التي تجبرها على ضرورة استئذان مصر، باعتبارها دولة مصب، فإن الخرق الإثيوبي لاتفاقيات سنوات 1902 و1929 و1959 و1993 سيهدد الأمن والاستقرار في دول حوض النيل جمعاء، فمصر التي لم ترفع راية الحرب على المياه طيلة تاريخها، ولم تهدد بها إلا في فترة السادات، لديها الآن من شرعية الشارع ما يعطيها الضوء الأخضر لاتخاذ ما تراه من إجراءات رادعة، وذلك بعد استكمال كافة الوسائل السلمية عبر المفاوضات والتحكيم الدولي والوساطات، لمواجهة هذا الخرق الصريح للأعراف والمعاهدات الدولية، فقلق المصريين كبير، والخوف على مستقبل حياتهم ومياههم جد خطير، هذه الخوف تسبب لأول مرة في احتشاد الشارع المصري ضد إثيوبيا. وعلى الجانب الإثيوبي أن يدرك حجم الغضب والقلق الذي تسبب فيه، وأن يعي جيدًا مخاطر هذا الاحتشاد ضده، وضد مصالحه في مصر والمنطقة عمومًا، ما قيمة أن تبني إثيوبيا سدًا وتخسر مصر التي قدمت الكثير والكثير في ظل إمكانياتها الضعيفة لدول الحوض جميعًا، عبر مبادرة تكونيل سنة 1992 ومباردة حوض النيل سنة 1999 وحتى الآن؟ ما قيمة أن تبني سدًا يهدد أمن واستقرار جيرانك، خصوصًا وأنت تعرف مسبقًا أن حياتهم قائمة على هذه المياه التى تناور بها وتحجب ؟ ما قيمة أن تبنى سدًا وأنت تدرك سلفًا أن الدولة المتضررة لن ترهن حياتها منتظرة لإجراءاتك المنفردة؟ لا أحد ينازع إثيوبيا في بناء ما تشاء من سدود على أرضها، لكن بشرط ألا تضر بحصة مصر المقررة تاريخيًا ب 55 مليار متر مكعب، ولا أحد ينازع إثيوبيا في البناء، بشرط أن تكون سدودها قوية وآمنة، لا تنهار فجأة فتغرق دولة المصب، وتأتي على الأخضر واليابس فيها، لا أحد ينازعها في البناء، حتى في ظل استغلالها الظرف السياسي الذي تعيشه شقيقة الوادي، لكن بشرط ألا تضر بمصالح الآخرين وحياتهم، ومن ثم فإن احتشاد المصريين ضد بناء سد النهضة، قد يفتح الباب على مصراعية أمام المباردات الفردية والجماعية، لتوقف أي إنجاز يتم فيه على أرض الواقع.
د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.