(1) سألنى صديق سؤالا بسيطا: قال ألا ترى أي ضوء فى نهاية هذا النفق المظلم ..؟ لم أكن أتوقع مثل هذا السؤال فترددت فى الإجابة عليه قليلا .. كنت أحاول أن أمدّ بصرى أماما أستشرف آفاق المستقبل ، لعلى أرى ضوءا أو حتى بصيصا من ضوء يشى بنهاية لهذا الليل المدلَهِمّ ، ولكننى لم أجد شيئا .. ولأننى لم أكن أرغب أن أنقل إلى صديقى هذا الشعور السوداوي آثرت أن الاحتفاظ به لنفسى .. ولجأت إلى رصيد الإيمان الذى لا تنفد ينابيعه فى أغوار النفس الإنسانية .. فوجدتنى أقول لصاحبى: لو أننا تركنا الإجابة المباشرة على هذا السؤال جانبا ، لنتأمل فى التجربة الإنسانية الشاملة .. وننظر فى الحكمة الإلهية الكلّية التى نشأ هذا الكون بمقتضاها لتبيّن لنا حقائق يتعاقب فيها: الليل والنهار .. الموت والحياة .. الصحة والمرض .. وهى بعض آيات الله المبثوثة فى عالم الطبيعة وعالم الأنفس ، يؤدّى التأمّل فيها بالضرورة إلى إدراك أن المبدأ الأساس الذى يحكم كل شيء هو التغير والصيرورة .. وأنا شديد الإيمان بهذه الحقيقة .. وعلى يقين أن الليل له آخر وأن نور الفجر منبثق فى موعده لا محالة ، وأن الشمس ستشرق من جديد .. و بالنسبة للمجتمعات الإنسانية بصفة خاصة أقول مرة أخرى: إننى على يقين أن التغيير فى المجتمعات الإنسانية ، مرهون بأوضاع نفسية وشروط لا بد من توفّرها حتى يأذن الله بالتغيير، سواء نحو الأصلح أو نحو الأسوء .. وتتضافر فى تأكيد هذه الحقيقة التجارب التاريخية مع الآيات القرآنية بصورة بالغة الوضوح ، بحيث لا يمكن تجاهلها أو التغاضى عنها ويُفهم من هذه الآيات أن النعمة لا تزول حتى يغير الناس ما بأنفسهم ، بإنكار النعمة وعدم الشكر للمنعم ، والكل هنا فى المسئولية شركاء شعوبا وحكومات .. وكلّ له دوره الخاص: فالحكومة الصالحة الرشيدة لها دورها فى توفير الحياة الكريمة للناس وفى تقويم الفاسد و المعوج ، بالقدوة الحسنة ، ومن خلال برامج التعليم والتثقيف والتربية ، وبالعقوبات القانونية إذا لزم الأمر (بلا غلو ولا قهر ولا إذلال) ، وللشعب دوره فى العمل والانتاج ورعاية الأمانات ، ومراقبة الحكومة ونصحها وتقويم أدائها من خلال مجالسه النيابية ومجتمعاته المدنية الحرة .. حتى إذا فسدت السلطة وجرجرت المجتمع معها إلى مستنقعات الفساد فإن تغيير هذا الفساد أيضا خاضع للحكمة الإلهية التى لا تتخلف أبدا .. والتاريخ الإنساني حافل بالأمثلة على وسائل الشعوب التى لا حصر لها فى تغيير أوضاعها .. وليس من هذه الوسائل السكوت والسلبية وانتظار التغيير الذى تجئ به قوى الخير البرّانية ، فمثل هذا التغيير لن يأتى أبدا .. لا من أمريكا ولا من المهدى المنتظر ولا من النظم الغارقة فى الفساد، [ فبعض السذج من الناس لا يزالون يأملون أن تُقْدِم مثل هذه النظم على إصلاح نفسها بنفسها ] وليس هذا إلا وهْم كبير وخرافة لم تحدث فى التاريخ أبدا ، فالعضو المريض فى الجسد عندما يصل إلى حالة من العفن القاتل ، يصبح من الضروري إستئصاله بالجراحة ، إنقاذًا لبقية الجسد من امتداد الغنغرينة إليه.. وقد علّمنا التاريخ أن استئصال المنظومات السياسية العفنة يستلزم تضحيات كبيرة وأشكال متعددة من النضال المتواصل ، فى خضم تلك التضحيات وخلال هذا النضال تتغير الأنفس ، وتكتسب المجتمعات بعملها وجهادها المشترك شروط نجاحها فى الإختبار الإلهي لتصبح مستحقة لنيل جائزته .. وهنا تحدث المعجزة ويتحقق وعد الله ...! أعترف أننى لست متفائلا على المدى القريب فإن ما تأتى به الأخبار كل يوم لا يدل إلا على مزيد من التدهور .. ولا أرى مؤشرا ولا شاهدا واحدا يدل على تغييرٍ إلى ماهو أفضل .. ولست مستعدا لإيهام نفسى بأنه رغم كل شيء هناك مؤشر ما على بداية نهضة جديدة ، كما فعل صديقى الدكتورجلال أمين الذى ذهب إلى معرض الكتاب وعاد يكتب مقالا فى الشروق بعنوان:"بشائر نهضة ثقافية جديدة " لمجرد أنه رأى إقبالا كبيرا من الشباب على قراءة الكتب الجديدة لكتّاب جُدد، أتمنى أن ألقاه لنناقش معا هذه القضية، وأسأله هل هو رأى الشباب [يقرأون] أم رآهم فقط [يشترون]..؟ حتى هذه القضية التى تبدو بسيطة هى أكثر تعقيدا مما نظن ...!! (2) أطوى هذه الصفحة مؤقتا وأعود إلى موضوع كنت قد بدأته من قبل وكتبت فيه ثمانية عشر حلقة تحت عنوان " الإنسان فى عصر التكتلات الاحتكارية" .. راجيا أن تكون هذه هى الحلقة الأخيرة .. فقط أريد أن أذكّر القراء بأننى كتبت أيضا عن أوباما فى الوقت الذى انطلق نجمه وهلل له الناس جميعا فى أنحاء المعمورة ، وقبل أن يطلق فى قاعة المحاضرات الكبرى بجامعة القاهرة وعوده البراقة التى حازت على تصفيق حار من جمهور القاعة ، لبلاغته ووعوده الباعثة علىا لأمل فى شروق عهد أمريكى جديد .. كتبت وقتها مغرّدا وحدى خارج السرب بأن أوباما لن يغير شيئا ، ولن يحل مشكلة وعلى الأخص القضية الفلسطينية .. وقد وصفته حينذاك بأنه مجرد [فقاعة كبيرة] سرعان ماتنفجر وقد حدث ...!! لم يسألنى أحد لماذا اتخذت هذا الموقف ..؟ ولماذا انفردت بهذا الرأى ..؟ وأجيب على السؤال الذى لم يسألنيه أحد .. لعل شيئا مما أكتب يقع فى يوم من الأيام فى جيل من الأجيال فى عقل إنسان موهوب بقدرات فكرية خاصة ، ليفهم وليشرح وليفيد قرناءه ، بما عجزت أنا عن شرحه وإيصاله إلى الناس .. وإجابتى على سؤالى هى: أن أوباما أو غيره من الرؤساء لا يملكون فى الحقيقة من السلطة ما يتوهم الناس أنهم يملكون.. فالسلطة الحقيقية فى أمريكا فى يد مجموعة أخرى من أصحاب المال والأعمال والصناعة الذين يملكون الشركات العملاقة ويتحكمون فى العالم كله [ وليس أمريكا فقط ] من خلال تكتلاتهم الاحتكارية الهائلة .. إنهم يحكمون أمريكا من وراء ستار ، ولست أخجل أن أسميهم كما سمّاهم كتّاب ومفكرون أمريكيون وأوربيون [الحكومة الخفية]. (3) عرفنا كثيرا عن هذه التكتلات الاحتكارية وعن وسائلها فى التحكم والسيطرة العالمية ، وبقيت وسيلة لم أتطرق إليها من قبل بشكل مباشر فى مقالاتى السابقة .. وهى مؤسسة فكرية تعتمد على الدراسة والبحث ، يحتشد فيها أكبر العقول وأكثر القيادات استيعابا للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى أمريكا وفى دول العالم الخارجي .. فى هذه المؤسسة يتم طبخ السياسات ، وتُقدّم إلى الإدارة الأمريكية على شكل نصائح .. ولكنها فى واقع الأمر نوع من النصائح واجبة التنفيذ .. لماذا .. ؟؟ لأن وراءها أولياء الأمر .. ركفلر وصحبه ...! أما إسم هذه المؤسسة فهو: [مجلس العلاقات الخارجية] Counsel on Foreign Relation .. أٌقول: إنه يكاد يكون من المستحيل أن تتعرف على مدى نفوذ روكفلر فى الحكومة الفدرالية دون أن تعرف شيئا ما عن (مجلس العلاقات الخارجية) ، فهذا المجلس إكتسب صفة الحكومة الخفية للولايات المتحدة.. وهو وصف دقيق لحقيقته .. ونشاطاته شبه سرية ، فهو ينأى بنفسه عن الإعلام، ويؤدّى أعضاؤه القسم ألا يكشفوا للرأى العام أنباء مؤتمراتهم أو نتائجها .. أما أعضاؤه الرسميون الكبار فيبلغ عددهم ثلاثة آلاف شخص .. فى مقال كتبه أحد أعضاء المجلس هو جوزيف كرافت ، نشر بمجلة هاربر فى يوليه1958 بعنوان (مدرسة رجال الدولة) ، يفتخر فيه كرافت بأن العضوية فى هذه المنظمة الغامضة قد أصبحت المفتاح السحرى الذى يفتح باب التعيين فى المراكز الحكومية العليا . يشرح هذا لنا السيد "كرافت" فيقول: " إن عضوية هذا المجلس تشتمل على أشخاص مثل "الرئيس الأمريكى، ووزير الخاجية، ورئيس وكالة الطاقة الذرية، ومدير وكالة المخابرات المركزية، ورئيس مجلس إدارة ثلاثة من خمسة من أكبر الشركات الصناعية فى الولاياتالمتحدة ، وإثنان من أغنى أربعة شركات تأمين فى أمريكا ، و أغنى أربعة شركات تأمين فى أمريكا، وإثنين من ثلاثة من أكبر مكاتب القانون فى وول ستريت، ورؤساء جامعات ومؤسسات تعليمية وعدد كبير من عمداء الكليات وكبار العلماء والصحفيين .." هذه القائمة بطبيعة الحال تنتمى الى سنة 1958 وهى على ضخامة عدد العضوية فيها امتدت للسيطرة على مؤسسات حيوية لاحصر لها فى طول الولاياتالمتحدة وعرضها (لتشمل كل مؤسسات السلطة فى البلاد) ، إنها تمارس سيطرة خفية على مؤسسات حكومية وإعلامية وتعليمية وتمويلية لا حصر لها ، فانظر إلى هذه القائمة القديمة بعد تحليلها حيث تجد الآتى: من الحكومة، كانت تشمل العضوية الرؤساء: هوفر وأيزنهاور، ونكسون وفورد، وكارتر، وبوش، وكلينتون .. ووزراء خارجية: أتشسون، دالاس، هيرتر، دين راسك، روجرز، كيسنجر، فانس، موسكس، هيج و شولتز.. و منذ 1953 كان هناك 21 رئيسا ووزير خارجية ، كان 17 منهم أعضاء فى هذا المجلس يعنى 81% .. كما تشمل القائمة : رئيس أركان القوات المسلحة ، ومدير وكالات المخابرات المركزية، وأعضاء مجلس الأمن القومى، ووزراء تجارة وأعضاء فى مجلس الرئاسة ، و سفراء بالأمم المتحدة وفى أهم الدول الرئيسية، ومستشارى رؤساء .. (4) كان الوحيد الذى لم يلحق بهذا المجلس هو الرئيس كنيدى .. أُُرسلت إليه دعوة للانضمام إلى عضوية المجلس ولكنه تجاهلها .. وهو الوحيد من بين هؤلاء الرؤساء الذي تم اغتياله ، ولم تكشف التحقيقات عن قاتله الحقيقي . لا حظ أن عهده ارتبط بسعيه وإصراره على إصدار قانون الحقوق المدنية للسود ، وأنه الرئيس الوحيد الذى حاول تحجيم دور المؤسسة المالية الخاصة فى إنشاء النقود وبدأ بتجربة متواضعة ، بصك العملة المعدنية فى وزارة المالية بدلا من بنك الاحتياط المركزى، الذى هو فى الحقيقة ملك خاص لروكفلر وصحبه ، و فى عهده ولأول مرة فى تاريخ السياسة الأمريكية تمتنع أمريكا عن التدخل بحق النقض الفيتو ضد قرار لمجلس الأمن بإدانة إسرائيل.. فهل كانت هذه وثيقة الاتهام السرية التى بررت اغتياله .. كما بررت اغتيال أخيه الذى رشح نفسه للرئاسة بعده .. ومحاولة قتل أخيه الثالث سناتور إدوارد كنيدى بالغرق والفضيحة ، وبذلك عوقبت أسرة كنيدى كلها .. لتصمت إلى الأبد ولا تقترب من الرئاسة الأمريكية ...!!؟ (5) بنهاية ولاية كلينتون الأولى كان هناك أكثر من 166 عضوا فى مجلس العلاقات الخارجية على رأس مراكز رئيسية فى الحكومة . ولقد غزا هذا المجلس بأعضائه كل المجالات الإعلامية والصحفية ، وأصبح أعضاؤه يملكون المناصب العليا والتيارات المتحكمة فى هذا المجال ، و تشمل القائمة جميع الصحف الأمريكية ومحطات التلفزة CNN, CBS, ABC, MGM, NBC ، كما تشمل وكالات أنباء رويترز والأسوشييتد برس، وهرست نيوز سيرفيس ، وغير ذلك كثير. دعنا نؤكد أن أعضاء مجلس العلاقات الخارجية لايعملون فقط فى هذه المؤسسات الإعلامية العملاقة ... لا .. إنهم يسيطرون عليها من القمة: فمنهم المالكون ومنهم المديرون المؤثرون المتحكمون ، الذين يسيطرون على سياسة التحرير ويتحكمون فى المحتوى الإعلامى ، ومن خلال قنوات – التواصل والترفيه – أصبحوا قادرين على التلاعب بعقول الأمريكيين وخيالهم. (6) المؤسسات التى يطلق عليها صفة [خيرية] التابعة للتكتلات الإقتصادية الاحتكارية، هى أيضا مََغْزُوّة بأعضاء من المجلس، منهم مديرون من مؤسسات: فورد، و روكفلر، وكارنيجى، وهيرتِتْج ، وكيترنج (معهد د. سلوان كيترنج لبحوث السرطان) ، هذه هى المنظمات التى كانت ولا تزال تمد المجلس بتمويله لسنوات طويله .. وكان ديفد روكفلر هو أول مدير لمجلس العلاقات الخارجية ، وكان هو المستفيد الأول من المجلس. (7) وختاما أحب فقط أن ألفت النظر إلى الحقائق الآتية : كل الجامعات الواردة أسماؤها فى القائمة ، وكل المؤسسات المالية والإقتصادية، وشركات التأمين يديرها رجال هذا المجلس، وتذكر أن مجموع الأعضاء فى هذا المجلس يبلغ ثلاثة آلاف عضو ، و اعلم أن المادة الأساسية اللاصقة بين هؤلاء الأعضاء جميعا هىخطة الحكومة العالمية والنفوذ الشخصي الذى يتطلّعون إليه ، ثم يأتى تحصيل المال كدافع تالٍ فى الأهمية .. واعلم أيضا أن الشخص الأمريكى العادى لم يسمع عن شئ إسمه مجلس العلاقات الخارجية ، وفى هذا تكمن بعض أسرار قوته ونفوذه ونجاحه .. فهو يعمل بهدوء ، بعيدا عن الأضواء ، بعيدا عن أعين المراقبين والناقدين والمتطفلين .. وإذا أردت أن تعرف المزيد عن هذا المجلس العملاق ، وتتعرف على تفاصيل قائمة العضوية فيه ، والمؤسسات التى يسيطرون عليها فارجع إلى هذه المصادر: 1. The New American (Conspiracy Report, September 16,1996) 2. Shadows of Power, the Council on Foreign Relations of the American decline by James Perloffs (Appleton, w1: Western Islands, 1988). 3. The Capitalist Conspiracy: by G. Edward Griffin (American Media, Westbrook village, CA, 1971. وبالله التوفيق ........ [email protected]