بدأت أزمة المجتمع المصري بعد هزيمة 67، فتلك الهزيمة أنهت مشروعا تجمع المصريون من حوله، وهو المشروع القومي العربي. فالنظام المصري الحاكم في عهد جمال عبد الناصر، رفع شعارات محددة، وبنى مشروعه على تحقيق الاستقلال والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتحقيق الوحدة العربية، ولكن هذه الشعارات ماتت مع هزيمة 67. ووجد المجتمع المصري نفسه أمام الحقيقة المرة، فالدولة بدت أضعف مما تصور، والنظام لم يكن مستعدا لخوض حرب للدفاع عن القومية العربية، أو حتى الدفاع عن الأراضي المصرية. ولم تكن بنية النظام قوية، حتى يصمد أمام الهزيمة، بل تحول كل تركيزه لتحقيق نصر عسكري يرد به على الهزيمة العسكرية، ولم يلتفت النظام للهزيمة الشاملة التي ألمت بالمجتمع المصري، وهي هزيمة الحلم الذي عاش عليه والشعارات التي عمل من أجلها وتحمس لها، والآمال التي توقع تحقيقها. ومع الهزيمة الكاملة لمشروع الاستقلال والتحرر، سقط الانتماء العام، فلم يعد المجتمع موحدا حول مشروع بعينه وهدف في حد ذاته، ولم يعد المجتمع يرى في النظام السياسي والدولة، ممثلا عن هويته وتصوراته عن المستقبل. والانتماء العام يتحقق من خلال إدراك المجتمع لهويته وأهدافه، ومن خلال تعبير الدولة عن تلك الهوية وتلك الأهداف، ومن خلال عمل النظام السياسي على تحقيق أهداف المجتمع. ولكن النظام الناصري زرع في المجتمع تصورات عن الوحدة العربية والاستقلال والتحرر، وجدت تجاوبا من المجتمع، ولكنه فشل في الاستمرار في نهجه بعد هزيمة 67، وبدأ في التحول إلى مرحلة الحفاظ على النظام ورد اعتبار الجيش. وهنا بدأت الدولة تدافع عن نفسها، وتستعد لترد الهزيمة التي أصابت النواة الصلبة لها، وهي الجيش. وتحول النظام الحاكم في عهد أنور السادات، إلى مرحلة الدفاع عن النظام والنخبة الحاكمة، ولم يستطع تقديم مشروع بديل يوحد المجتمع. وهنا تبرز المشكلة الأهم، فالنظام بعد هزيمة مشروعه، لم يدرك أن مشروع القومية العربية لم يكن تعبيرا عن الموروث الحضاري للمجتمع المصري، ولم يكن انعكاسا كاملا للهوية الحضارية للمجتمع، ولم يستند على مجمل هوية المجتمع المصري وانتماءه العام. فقد حصر النظام في عهد عبد الناصر هوية المجتمع في القومية العربية، وأعطى لها مضمونا علمانيا، ولم يلتفت النظام الحاكم للهوية الحضارية للأمة، والتي تقوم على الدين كمرجعية عليا، ولم يهتم بالهوية الإسلامية، ولم يدرك حقيقة القيم الشرقية المحافظة المميزة للمجتمع المصري. فكان مشروع القومية العربية حلما يمكن أن يجد له رواجا بين الجماهير، ولكنه لم يكن تعبيرا متكاملا عن هوية المجتمع المصري الممتدة عبر التاريخ. ثم جاءت الهزيمة لتدفع النظام المصري إلى الانكفاء على الهوية القطرية المصرية، وتباعدت المسافة بين النظام الحاكم والدولة من جانب والمجتمع من الجانب الآخر. ورغم انتصار السادس من أكتوبر 73، إلا أن الهزيمة ظلت حاضرة في المجتمع، وكأن الهزيمة كانت هزيمة للجيش والدولة والمجتمع، أما الانتصار فكان انتصارا للجيش والدولة فقط. فقد ظل المجتمع المصري يعيش الهزيمة المعنوية حتى بعد انتصار أكتوبر، خاصة وقد تحول النظام بعد ذلك إلى اتجاه بعيد عن المجتمع وهويته. فقد أصبح النظام قوميا قطريا علمانيا، يعلي من المصرية في مواجهة الانتماء العربي والإسلامي. وانهارت كل شعارات الثورة بعد عودة الفوارق بين الأغنياء والفقراء، وانتهاء شعار الاستقلال والتحرر، وعودة التبعية للغرب، وكأن نظام ثورة يوليو دار دورة كاملة، حتى عاد إلى النقطة التي خرج الضباط الأحرار في مواجهتها، فأصبح النظام الحاكم يعيد المجتمع إلى عهد التبعية وتسلط النخبة الحاكمة. والانتماء العام الذي أنكسر مع هزيمة 67، لم يستعاد من جديد، فلم يعد النظام السياسي معبرا عن المجتمع، ولم يعد يحمل أحلام الناس، بل ولم يعد يحمل هموم المجتمع وأزماته. فقد أصبح النظام السياسي منفصلا عن المجتمع، ولم يعد يمثل إطارا جامعا للجماعة المصرية، وبالتالي لم يعد تعبيرا عن الهوية المشكلة للانتماء العام للمجتمع المصري. ففقد المجتمع المصري الإطار العام الذي يشكل توجهاته، ولم تعد النخبة السياسية ممثلة للمجتمع أو مؤثرة فيه. ولا يمكن تأسيس الانتماء العام بدون دور للدولة والنظام السياسي والنخبة الحاكمة، خاصة مع ضعف المجتمع وتأميم مؤسساته وقدراته، بسبب هيمنة النظام السياسي عليه. ووصلنا في النهاية إلى حالة يفتقد فيها المجتمع المصري المؤسسات التي تعبر عنه وعن هويته، وبالتالي فقد المجتمع الإطار الذي يمكن أن يعبر فيه عن حلمه المشترك وهويته المشتركة ومشروعه المستقبلي. ومع ضعف الانتماء العام، وخروج النظام السياسي على هوية المجتمع، بدأ المجتمع يتحرك بحثا عن ملاذ آمن، ولن يصل أي مجتمع لملاذ آمن إلا عندما يصل إلى هويته الحقيقية والمعبرة عن تاريخه الحضاري. فالمجتمع عندما يفقد الانتماء العام، ويفقد الشعور بالأمان، ويتعمق لديه الشعور بالهزيمة، ويعاني من اختلال حقيقي في بنيته، ويتعرض لأزمات متتالية، يتجه للبحث عن ذاته، حتى يستعيد ثقته في نفسه، ويستعيد قدرته على الحياة. لهذا بحث المجتمع عن هويته، بعيدا عن النظام السياسي، بل وبعيدا عن المؤسسات الرسمية، التي لم يعد لها مصداقية لدى المجتمع. وهنا ظهرت حركة الإحياء الديني، وكانت الرافعة الأساسية لعودة الهوية للمجتمع، واستطاع المجتمع من خلالها أن يستعيد نظامه الاجتماعي، ويستعيد إدراكه لذاته. واتجه المجتمع في طريقه بعيدا عن النظام السياسي، واستعاد هويته العربية الإسلامية. فأصبح الانتماء العام مجسدا في المجتمع، دون إطار رسمي أو سياسي يعبر عنه، وأصبح النظام السياسي خارج على هوية المجتمع وغريب عنه، ففقد شرعيته، وتحول إلى استعمار محلي، يفرض نفسه بالقوة على المجتمع.