في ظل فترات القهر والحصار الذي عانت منه حركات الإسلام السياسي في مصر، وعلى رأسها الإخوان والجماعة الإسلامية والسلفيون، ظلوا منذ نشأة تنظيم الإخوان المسلمين سنة 1928 وصاعدًا وعبر الأنظمة كافة، يقدمون خطابًا مستترًا، يبشرون الناس فيه بالأمل وبالمستقبل الأفضل. يحببون الناس في الدين ويرغبونهم فيه، ويدعون لمحاربة الرذيلة، ويعمقون الهوية الإسلامية، ويتحدثون عن الأمة والخلافة، وضرورة العودة للكتاب والسنة وأصول السلف. غير أن الظرف السياسي الذي تعيشه البلاد في اللحظة الراهنة، جعل عددًا من الناس يعيبون عليهم، جهرهم الصريح بالخطاب السياسي والديني. لدرجة جعلت البعض يتمنى أن لو عاد هؤلاء إلى جحورهم، كما كانوا من قبل. حتى وإن عادوا يقدمون خطابًا مستترًا تعوّدوا عليه عشرات السنين، وصلت في حالة الإخوان لأكثر من 80 سنة. وهذا الاعتراض على خطاب التيارات الدينية نابع من كونه خطابًا غير حداثي، كما يزعمون، ومجافي لروح العصر. وبالرغم من أن الذين يقولون بوجهة النظر تلك، متأثرون بالمعطيات الغربية المقدمة تحت عناوين الليبرالية والعلمانية، إلا أنهم لم يدرسوا الخطاب الغربي في ذاته، دراسة جادة وواعية. ومن ثم وجب على الذين يعيبون على رجالات التيارات الإسلامية، بأنهم يقدمون خطابًا منغلقًا، يبتعدون في مفرداته عن مفردات الحداثة والتطور، عليهم أن يعيدوا قراءة التاريخ الغربي نفسه. فالغرب هو من درج على تقديم هذا الخطاب المتناقض والمزدوج. فالكثيرون يعتقدون أن الغرب قدم نفسه ومشروعه، ولا داعي لتكرار التقديم. وأن الواقع يثبت أنه قدم خطابًا حداثيًا ومتطورًا، وأن التيارات الإسلامية الحاكمة والمتحالفة معها، هي التي تقدم خطابًا لا يتماشى مع روح العصر. لكن ينبغي في هذا الإطار أن يجيبوا عن عدة أسئلة جوهرية: هل العيب في لغة الخطاب نفسها؟ أم أن تحول رجالات التيارات الدينية من الخطاب المستتر إلى الخطاب العلني والمكشوف، لم يكونوا مهيئين له؟ وهل العيب فيهم أم في المجتمع؟ وهل يمكننا إيجاد صيغة ما، لحل تلك الإشكالية؟ الكثيرون يعترضون على الخطاب المتداول ويعتبرونه خطابًا مزدوجًا، هدفه الحصول على الشرعية بأي شكل. وأن الخطاب المكشوف هو الخطاب المراوغ، أما الخفي فهو اللغة الرسمية للغرف المغلقة. فهل يعد الخطاب الذي تقدمه تلك التيارات خطابًا تبريريًا، يغزي تخويف الناس وإرهابهم لفرض سلطة شمولية لرجال الحكم؟ أم أن فهم الناس عن الدين هو الذي سبب هذا الاختلال في التقييم، والوصول لتلك النتيجة؟ هذا الخطاب الذي يقسم المجتمع لفريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وفريق وطني وآخر عميل، إنما هو خطاب تبريري لعملية القمع والعنف التي تجري. والخشية كل الخشية، أن تصل بنا تلك اللغة للحظة الصدام التي يتوقعها الجميع. لهذا يتحير المرء في ألا تجد التيارات الإسلامية صيغة مناسبة حتى الآن، لتقريب كل التيارات اليسارية والعمالية والاشتراكية والليبرالية تحت آلية وطنية، يتحولق الجميع حولها. فمن الممكن أن ننهي فكرة الصدام الحاد الذي يجري، بالتوقف عن الخطاب بلغة امتيازات المنتصر على المنهزم. بل إن الخطاب المزدوج الذي يتحدث عن إنجازات تم تنفيذها، وينسى الواقع المعيشي للمصريين، المطبوع بالظلم وعدم العدالة والقهر، يفرض علينا وجود هذا الاستقطاب الحاد في المجتمع. فأزمة الإخوان مع الجيش والشرطة والقضاء على سبيل المثال، تجعلهم يقدمون حلولًا سحرية، لكنها غير قاطعة. فقد جلسوا مع مجلس القضاء الأعلى، وتحدثوا حول قانون السلطة القضائية، وطلبوا الجلوس مع عدد من القضاة، ثم أعلنوا أنهم لن يتدخلوا في مناقشات مجلس الشورى، تمهيدًا لإعلان القانون. وبالتالي فإن كل ما يروجونه، اقتصر على ضرورة خلق حالة حوار حول القانون بين القضاة وفقط، على أن يستمر التشريع ماضيًا في طريقه. فعدم حسم الأمور، والكلام غير القاطع، واللعب على المكشوف، كلها أمور سيئة لا تبشر بجهة تبحث عن استقرار الأمور، وتسعى لتوفير جو التهدئة والاستقرار. بل إن الاتجاه نحو الصدام وارد في أي لحظة، طالما أن هناك فريقًا يدير أمور البلد بهذا الشكل. ومع هذا، فإن المصلحة تقتضي في أن يستكمل الإخوان المسلمون فترة حكمهم لنهايتها، وإذا نجحوا سيجدد لهم. أما إذا أُفشِلوا، فإن سقوطهم، سيعني الارتداد للجحور والعمل السري مرة أخرى. لكن الأخطر في المسألة، أنهم سيعتقدون هذه المرة أن القوى المضادة هي التي نجحت في إسقاطهم. وبالتالي سيكون مدعاة لكل التيارات الإسلامية أن تعمل مستقبلًا، ليس فقط على إفشال أي تجربة جديدة، بل وإسقاطها بقوة السلاح. أحيانًا نلتمس العذر للتيارات الإسلامية في عدم القدرة على الحديث المكشوف والصريح بعد نجاح الثورة. وذلك لأنها توقع نفسها في كل مرة في مشكلة جديدة، تضاف لرصيد التخوفات الذي ترفعه بعض النخب ضدهم. وحتى حينما يحصلون على دورات في العلوم السياسية وخلافه، فإنهم يقعون أسرى فهم جديد يتناقض مع اللغة التي تعودوها من قبل. فهل يصبر مجتمعنا المصري عليهم بعض السنوات لتصحيح لغة الخطاب، وتعديله بشكل يتماشى مع واقع الناس وحياتهم؟ أم نتعجل لحظة الصدام المرعبة للجميع؟ أتمنى أن تعطي الفرصة كاملة لتلك التيارات في أن تقدم تجربتها كاملة في الحكم. وألا تجد حرجًا في الاستعانة بخبراء ومتخصصين في لغة الخطاب لتهذيبها، وجعلها أكثر قبولًا من الفئات العليا قبل الدنيا، ومن المتعلمين قبل الأميين، ومن خاصة الناس قبل عامتهم. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.