يسافر البعض من أجل المتعة والترفيه أو مشاهدة الآثار أو التسوق، ولكن كل ذلك لا يستهويني كثيرًا، ما يلفت اهتمامي في أي بلد هم البشر، كيف يتعايشون وما هي اهتماماتهم؟، ما هي عناصر القوة والضعف في مجتمعهم، في أي شيء يشبهوننا أو يختلفون عنا، وكلما تعددت الأسفار كلما زاد يقيني أن البشر متشابهون أكثر مما نتخيل، وأن مظاهر الاختلاف هي استجابة لظروف البيئة وتحدياتها. هنا في تركيا توقفت لا كمسافرة تنظر وتتأمل بعين السائح الغريب الذي يجمع بعض الملاحظات والطرائف ثم يمضي عائدًا من حيث أتى، ولكن توقفي كان عن دهشة فرحة لم أستطع تفسيرها حتي اليوم، هؤلاء القوم اندمجت في وسطهم بعد أيام قلائل، أبدًا ليسوا غرباء عني، هل أقام أحد أجدادي هنا أيام الخلافة العثمانية وترك في جيناتي ذلك الإحساس بالألفة الذي يحسه من يزور مسقط رأسه لأول مرة؟ ربما. ولكن المؤكد أنها رابطة الإسلام وثقافته وحضارته تجمعنا معًا فلا نشعر بالغربة كما قالت لي الداعية التركية (حنيفه عادل ) (مصري تركي واحد لا اختلاف ولا خلاف) في البيت التركي شعرت بالعودة لعالم (أبلة وتيزة) أبله للأخت الكبيرة و(تيزة) للخالة ومن في منزلتها، عالم الاحترام البالغ للكبير ولحامل القرآن الكريم، عالم طبق الحلوى الذي تتهادى به الأسر ولا يعود فارغًا، عالم صلة الرحم والترحيب بالجار ومساعدة الغريب. أعرف أن هذه العادات كانت أصيلة في المجتمع المصري ولكنها للأسف آخذة في الانحسار وخاصة بعد تسونامي الثورة الذي يكتسح كل القيم في طريقه وكأن مخالب الثورة تنهش الأخلاق بينما تمنح العفو لرموز النظام البائد. أعيش في وسطهم مجتمع "يوم المقابلة" لنساء الحي وتصاعد الالتزام بالحجاب واللهفة والتعطش للارتواء من نبع الدين، يقولون "رب ضارة نافعة"، وحين اتخذ أتاتورك قراره بعزل الأتراك داخل لغتهم فلا يعرفون ولا يتعلمون غيرها كان له هدف أمني، وهو إغلاق الباب عليهم من تيارات المعرفة والتمرد التي يموج بها العالم وكان له ما أراد، ولكن لعل ذلك حفظ عاداتهم وتقاليدهم ذات الجذور الإسلامية من التغير والاندثار، طبعًا لا أتكلم عن المجتمع كله وأنى لي ذلك؟ ولكن عن الشريحة المتدينة التي أخالطها دائمًا في بلدي وفي أسفاري. كنا نمضيفي الطريق أنا والأخت "حنيفة" وكل منا تحتمي بمظلتها من أمطار الربيع، وشاهدنا غرابًا في حديقة من الحدائق المحيطة بكل البيوت هنا ورويت لها قصة الغراب الذي علم ابن آدم الأول كيف يدفن أخيه بعد موته، كما جاء في سورة المائدة، توقفت عن المشي وتعلقت بي عيونها الزرقاء بلهفة كانت تشرب المعاني عبر اللغة العجيبة التي نتفاهم بها "كلمة عربية وأخرى إنجليزية وثالثة تركية بالإضافة للغة الإشارة" دونت ملاحظتها في دفترها ولابد أنها راجعت تفسيرًا بلغتها وفي المقابلة التالية شرحت القصة القرآنية للنساء بمعانيها. التحدي الأول الذي يواجههم هنا هو عائق اللغة غير المتداولة التي لا يحسنون غيرها التي تعزلهم عن العالم وتصعب عليهم التعامل مع القرآن وفهمه، والتحدي الثاني هو البرد القارص الذي يتعايشون معه أغلب شهور العام وواجهوه بسلسلة من الإجراءات الاحترازية والتي يصعب تخيلها والالتزام بها بالنسبة لمن عاش مثلي في جو مصر الدافئ المحتمل طوال العام، تحدٍ آخر من وجهة نظري هو تلك الطرق التي يسمونها شوارع وهي تصعد وتهبط وتنحدر بشكل مخيف ولكنهم تكيفوا تمامًا معها فأنا أنهج وأقف كل بضع خطوات وأمشي بحذر والجميع من حولي حتى المسنون يجري ويهرول. انظر وأقارن فأجد مناخ مصر أفضل حتى إن الثورة قامت في 25 يناير، وكان الناس يبيتون في الخيام لوحدث ذلك هنا لتجمدوا، أرض مصر أفضل فهي خصبة ممهدة مستوية، موقع مصر أفضل، الموارد الطبيعية أفضل، اللغات المتداولة في مصراللغة العربية لغة القرآن والسنة واللغة الإنجليزية التي يفك شفرتها الكثير، وعن طريقها يمكنهم التواصل مع العالم كله، والأهم من ذلك كله العقلية المصرية التي تتسم بالذكاء الفطري وتراكم الحضارات وسرعة التكيف والمرونة والبديهة الحاضرة، ما الذي ينقصنا لننبذ الخلاف وننطلق لنلحق بركب التقدم؟