من داخل القفص الحديدي راح مبارك يلوح بيده؛ يوهم الناس بالنصر الذي حققه في نشر الفوضى وعرقلة مسيرة الثورة.. راح المخلوع يُلَوِّح بيده؛ ليستدر عطف الشعب للوقوف بجانبه وإطلاق سراحه. ونسي المخلوع أن يده التي يلوح بها تقطر دمًا من الجرائم التي ارتكبها، وغفل أن يده ما زالت ملوثة بدماء شهداء الثورة. نسي مبارك كل استبداده وظلمه، وراح يلوح بيده، جاهلاً أن عقارب الساعة لن ترجع إلى الوراء مهما لوَّح، ومهما حاول خداع الجماهير، تلك الجماهير التي عاشت وذاقت ظلمه واستبداده ثلاثة عقود كاملة. لا شك أن قرار محكمة جنايات القاهرة بإخلاء سبيل مبارك -حتى وإن لم يخرج- يعتبر استفزازًا لمشاعر المصريين الذين ينتظرون القصاص العادل من الرئيس المخلوع، وهو الذي دمر مصر طوال سنوات حكمه. إن بطء الإجراءات في محاكمة مبارك التي استمرت سنتين كاملتين -ولم تنتهِ بعد- هو قمة الظلم لأهالي شهداء ثورة 25 يناير. هذا البطء الذي تسبب في إخلاء سبيله، و"التباطؤ في العدالة ظلم مبين". قطعًا نحن على يقين تام أن حسني مبارك لن يُفلت من العقاب؛ فهو لم يجرم في حق المتظاهرين الذين سقطوا شهداء في ثورة 25 يناير فقط، وإنما أجرم في حق الشعب المصري بكامله، وجعل مصر نهبًا للفساد والاستبداد. إن يد مبارك لا تزال ملوثة أيضًا بدماء شهداء الجماعة الإسلامية الذين قُتلوا في الشوارع على مرأى ومسمع الشعب كله، وعلى رأس هؤلاء الدكتور علاء محي الدين، وعبد الحارث مدني، وماجد العطيفي، وغيرهم الكثير. على كل حال؛ خيرًا فعلت محكمة استئناف القاهرة بتحديد يوم 11 مايو القادم موعدًا لمحاكمة مبارك ورموز نظامه المخلوع؛ حفاظًا على تحقيق العدالة، وقصاصًا لدماء الشهداء الأبرار. لقد استبان للجميع أن الثورة المضادة تُطِل من جديد، وتسعى لإنتاج نظام مبارك من جديد، وتجدد آمالها في خروجه من السجن ليحكم مرة أخرى. ورغم أن ذلك مستحيل لكن يجب على القوى السياسية كافة أن تنتفض لمواجهة الثورة المضادة، وتصطف وطنيًّا لمواجهة هذا الخطر الداهم على الثورة، لابد أن نتناسى اختلافاتنا وأفكارنا ونخلع رداء الحزبية، ونقف في مواجهة مبارك وزبانيته، وذلك بالضغط المستمر، وتنظيم مليونيات متعددة؛ لتطهير مؤسسات الدولة العميقة، وإصلاح القضاء الذي لم يتناغم مع الثورة، وأصدر مهرجان البراءة للجميع؛ وأفرج عن كل أذناب الاستبداد السابق. هذا التصحيح أصبح من الأهمية بمكان، وذلك بعد انغماس الكثير من القضاة في معترك السياسة، وامتناعهم عن العمل، وعن الإشراف على استفتاء الدستور في الشهور الماضية، وتظاهر وكلاء النيابة بطريقة لا تليق، ومحاصرة مكتب النائب العام. كل ذلك يتطلب صدور قانون جديد للسلطة القضائية؛ ليصحح مسار القضاء حتى يتناغم مع الثورة وأهدافها، ويكون عاملًا على استقرار وهدوء البلاد. وأعتقد أن الأهم من تطهير الداخلية والإعلام ومؤسسات الدولة هو سرعة إجراء مصالحة وطنية شاملة؛ لقطع الطريق على فلول النظام السابق، وهم الذين وجدوا بُغيتهم وضالَّتهم في الانقسام وحالة الاستقطاب التي سادت المشهد السياسي. إنه لمن الضروري جدًّا أن نعلم أن التلاحم الوطني هو سر نجاح الثورة، وأن التنازع والاختلاف هو بداية الفشل. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.