في الوقت الذي ينبغي أن تستعد جماعة الإخوان المسلمين لتلقي مقالات وأشعار المديح من الكُتَّاب والمثقفين والمجتمع المصري بصفة عامة، على إثر الخطوة المحمود التي اتخذها المرشد العام للجماعة بتخليه عن منصبه بعد مدة ولاية واحدة، رغم سماح اللائحة بمدة ثانية، ورغم إلحاح الكثيرين على المرشد بالبقاء في منصبه لمدة كاملة أو لعام واحد فقط. رغم كل هذه الدواعي، من سماح اللائحة، والإلحاح الشديد من عدد من القيادات، والقبول العام للمرشد لدى مجلس الشورى، ما يجعل أمر التجديد له أشبه بالفوز بالتزكية: أصر الرجل ألا يبقى في منصبه يوما واحدا بعد انتهاء ولايته. وهو موقف محمود ومشكور ومذخور للمرشد، في ظل مناخ عام يتمسك فيه كل صاحب كرسي بكرسيه ما دام فيه عرق ينبض، ونفس يتردد، جو عربي ومصري عام لا تجد فيه - على وجه الأرض - رئيس دولة سابق، ولا رئيس حزب سابق، ولا مرشد سابق كذلك، وكل المسؤولين السابقين انتقلوا إلى رحمة الله أو عذابه، أو أقيلوا أو أجبروا على الاستقالة، إلا آحاد من الناس لا يقاس عليهم. هذا الموقف المحمود من الأستاذ محمد مهدي عاكف كان يستحق تقديرا عاليا لشخص الرجل وخطوته وفكره، وللجماعة التي يتولى منصب المرشد فيها، وكان من المنتظر أن يرفع أسهم جماعة الإخوان عاليا في المجتمع المصري، وبين النخبة السياسية والمثقفة. ولكن شاء من شاء أن يفسد العرس وأن يحوله إلى مأتم، وبدلا من أن يتوج التاريخ مسيرة الرجل بهذه المنقبة، جعلوه يختم مسيرته بأنه المرشد الذي ضربت الخلافات جماعته كما لم تضربها من قبل، والتي تجد أدق تفاصيل مكتب إرشادها على صفحات الجرائد، بألسنة وأقلام قادتها ومسؤوليها محافظين وإصلاحيين، بعد أن كان هذا محرَّما لسنين طويلة، وانتقلت الجماعة دفعة واحدة من جماعة يتولى المرشد وحده التحدث باسمها، ولا يوجد فيها حاليا متحدث رسمي، إلى جماعة فيها أكبر عدد من المتحدثين الرسميين، من أعضاء مكتب إرشاد، ومجلس الشورى، وغيرهم. والسؤال: مَن المتسبب في تفجر هذه الخلافات؟ بدءا ب(أزمة) تصعيد الدكتور عصام العريان، ومرورا بما سُمي باستقالة المرشد أو عزلته الاختيارية للراحة، وموعد انتخابات مكتب الإرشاد، وبدء الانتخابات، وانتهاء بالملاحظات والانتقادات والمذكرات على الانتخابات التي جرت على انتخابات مكتب الإرشاد، والتي ستجرى على منصب المرشد. من السبب في كل هذا؟ والسبب من وجهة نظري: هو عدم القدرة على إدارة الحوار الكافي داخليا، بحيث يتم التوافق على صيغة مقبولة يرتضيها الجميع - لحل الخلافات، وإجراء الانتخابات - تجنبهم اللغط الدائر في الإعلام الآن، والتعويل على عامل الوقت كعلاج وحيد للأزمة، واختبار طول النفس بين المختلفين على حل المشكلة. وقديما سئل عنترة: ما الشجاعة؟ فطلب من السائل أن يعطيه أصبعه ليعضه، وأن يعض هو أصبع عنترة. وهنا صرخ الرجل قبل عنترة، فقال له: لو لم تصرخ أنت لصرخت أنا، إنما الشجاعة صبر ساعة. ومن أول المشكلة إلى آخرها، فعل المختلفون مع بعضهم ما فعله عنترة مع السائل، فبداية من طرح المرشد لوجهة نظر بتصعيد الدكتور عصام العريان، وانقسام المكتب هذه القسمة غير الطبيعية، بأن يأخذ المكتب كله جانبا والمرشد جانبا، في ظل غياب الدكتور محمد حبيب عن الاجتماع، رغم كون الخلاف خلافا في تفسير لائحة، وكلا التفسيرين له اعتباره، دخل الطرفان في مباراة لاختبار طول النفس، فالمرشد اختار العزلة الاختيارية في بيته ليرتاح كما قيل، والمكتب بأكمله تمسك برأيه، وكما يقول البعض: سربت الحكومة الخبر إلى وسائل الإعلام. وظل التعويل على عامل الوقت، بدون إعادة التحاور حول الموضوع، وبدون إحالته لمجلس الشورى، وبدون عرضه على لجنة قانونية يرتضي حكمها الجميع سواء اتفق مع وجهة نظرهم أو لا. وليست هذه هي المرة الأولى التي تحاول جماعة الإخوان التقدم خطوة، فيرجعها البعض - من حسني النيات، وممن نحسبهم من الصالحين، المتقين، الورعين، ومن لا نعتب عليهم خُلقا ولا دينا، ولكن نعتب عليهم سياسة وإدارة - إلى الوراء خطوات. فغير بعيد برنامج الحزب المعيب، الذي خرج للصحافة، وللمفكرين والسياسيين خارج الجماعة، قبل أن يطلع عليه المفكرون والسياسيون داخل الجماعة، ممن هم أعضاء في مكتب إرشادها، ومجلس شوراها، وقبل أن تطلع عليه قواعد الإخوان، رغم ما قيل من تكليف بعض المفكرين المتخصصين من خارج الجماعة بكتابة بعض الفقرات المتعلقة بتخصصاتهم. ولذا وجه النقد له من رموز الجماعة وقادتها، مثلما وجه له النقد من خارج الجماعة، وضاع الجهد الذي بذل فيه أدراج الرياح لأسباب لعل منها التعجل، أو عدم الرغبة في إطلاع أناس بعينهم، أو إطلاع قواعد الإخوان عليه. وتم الاعتذار وقتها عن عيوب برنامج الحزب باعتذارات شتى، بأن هذه هي القراءة الأولى يعقبها قراءات، أو إصدار يعقبه إصدارات، أو أن هذا رأي الإخوان وهو غير ملزم لأحد، وغير ذلك من التعلات. الشاهد هو افتقاد الحوار الداخلي الكافي، والتعجل في بعض الخطوات، وإهمال بعض المؤثرين عمدا أو سهوا من المشاركة في صنع القرار، والتعويل على الوقت والنسيان كعلاج وحيد لكثير من الأزمات، ومحاولة إغلاق الموضوع إعلاميا، مع عدم القناعة بإعادة النظر فيه. فيا أيها المعنيون لا تحيلوا أفراح جماعة الإخوان إلى أحزان.