عندما رن هاتف الأستاذة الجامعية المصرية بعد أسابيع من ثورة 25 يناير، ودار حديث طويل بينها وبين المتصل، وكان من بين العبارات التي سمعتها تقولها: "لا يا دكتور، الدنيا تغيرت؛ ما فيش أمن دولة وموافقات أمنية، والآن كل واحد يأخذ حقه في رئاسة القسم وغيره". شرحت لي الدكتورة - بعد انتهاء المكالمة- كيف كان يتم التدخل الأمني في شؤون الجامعات، وفي أدق أمورها، وما سبَّبه هذا التدخل من نفور نخب أكاديمية وانعزالها، وهجرة عقول خارج مصر الكبرى. أما الآن فلم يعد الإنسان العادي يحتمل الظلم، فكيف بأستاذ جامعي؟ كم غبطتها على هذه النفحات من الحرية والتعبير والقوة والتشبث بطلب حقوقهم حتى اللحظة. ليس الماضي المصري عن حاضرنا ببعيد، فكم من الذين أخذوا فرصهم في المنح الدراسية، وخاصة للدراسات العليا، هم من الذين رضيت عنهم الأجهزة الأمنية أو صنعتهم؟ فهل كان الابتعاث يحصل دون أن يكون شرط الرضا الأمني هو الشرط الأول؟ وثم التعيين للذين لم يبتعثوا، هل يتصور أن يتم تعيينهم دون أن يدفعوا الثمن؟ صحيح أن لكل واحد ثمنه، فهناك الرخيص الذي يقبل بمكان له في الجامعة مقابل تقديم الكثير من التسبيح والتطبيل لهذه الأنظمة، والقيام بدور أشبه بما يكون بدور من سهلوا تعيينه.. ومنهم الأقل رخصًا، فيقبل بأدوار مختلفة حسب المواسم والمناسبات، ومنهم أغلى الرخيصين، حيث يأخذ مقعده مقابل الصمت أو الالتزام بالسقف المحدد له والتنازل عن أفكار كان يظن أنه سيموت لأجلها! مع وجود فئة قليلة تَنْفذ من ذلك بحكم ندرة التخصصات أو الزينة أو تبيض الوجه، وغيرها من الأسباب. في بداية التسعينيات، أسست الأجهزة الأمنية حزب "وطن" في الجامعات الأردنية؛ ليقوم بدور إضعاف التيارات الإسلامية، وكان من قباحتهم أن يهتفوا بهتافات "وطنية" مضادة لهتافات "الله أكبر"! في هذه الأثناء كان مجموعة من الطلاب يتلقون الأدوار المختلفة مقابل منافع دنيئة، وقد بلغت السذاجة بأن قال لي – أحدهم - بعدما سمعته ذات مرة يفتخر لآخرين في بطولاته الأمنية في لقاء فلان وعلان من مسؤولي الأجهزة الأمنية: "لقد وعدوني بأن يدخلوا أخي في جامعة مؤتة العسكرية"! لا أدري ماذا حصل مع أخيه، ولكن صاحبنا حصل على منحة دراسية لأمريكا في الدكتوراه، وثم عين أستاذًا جامعيًا ومستشارًا في رئاسة الوزراء. ورأيته عدة مرات يفرد عضلات لسانه بمقابلاته التليفزيونية، وكذا في مقالاته، ليستمر في دوره القديم بأسلوب جديد يتناسب مع مكانته "المرموقة ". ولأن أصل هذا المقالة كتبتها قبل سنوات ولم أرد نشرها مثل العديد من أخواتها، ولكن لمّا صار هذا الشخص وزيرًا في الحكومة الحالية فقد أصبح شخصية عامة، ومن حق الشعب أن يعرف من هم الذين يديرون البلاد ومؤهلاتهم الخفية إلا من رحم ربي. ما الذي صنع مثل هؤلاء النخب –وإن كانت من النخب التي تباع وتشترى-؟ ومن الذي سهل لهم مقاعدهم ومكاسبهم ومناصبهم المعلنة والمخفية؟ وفي المقابل، من الذي حرم آخرين من حقوقهم؟ ومن الذي حرم أبناءنا في الجامعات من الاستفادة من كفاءات قديرة ومميزة لم ترض بركوب موجة الذل وتلقي الأدوار؟ بعد أن رأيت بأم عيني تبدل الأحوال في أرض العروبة، لم أعد أعتقد بأن هذا الحال الفاسد سيدوم طويلًا في بلادنا، وسينكشف الكثير من أمثال هؤلاء المرتزقة كما قال الشاعر: وتَحْتَ الرِّغوةِ الَّلبّن الصَّريحُ.