سر بحيرة اللخبطة التي تعوم عليها مصر وجرأة الأثرياء الجدد على نهبها هو وضع "جمال مبارك". الرجل الذي لم يعد شابا فهو من مواليد 1963 ، أي أنه في عمر الكهولة بالمقاييس الحقيقية وليست المصرية. إنه أحد هؤلاء الأثرياء، ثروته المليارية تحوم حولها الشكوك أكثر من التي تحوم على غيره، لكونه ابن الرئيس، المتنفذ في كل شئ، والذي لا يتولى أي منصب رسمي مباشر، لكنه يقوم بمهام رئيس الجمهورية ومهام رئيس الحكومة في أحيان كثيرة. في الدول الديمقراطية التي تحكمها الشفافية لابد أن يقدم الرئيس وعائلته اقرار ذمة مالية قبل أن يتولى الحكم، ويخضع للرقابة المستمرة بعد ذلك لأن أي ثروة غير عادية تهبط على أحد أفراد العائلة ستكون مدعاة للسؤال والبحث والتنقيب. عندما صار مبارك رئيسا كان عمر جمال 18 عاما، أي لم يكن يملك شيئا، والمفترض أن أباه لم يكن له سوى راتبه من الدولة كنائب لرئيس الجمهورية، وقبلها كقائد للقوات الجوية، وهو أيضا من أسرة فقيرة، لم تظهر عليه أبدا قبل توليه الرئاسة أي علامات غير عادية توحي إلى ثراء أو ثروة بنكية، فقد كان يسكن شقة متواضعة ما زالت موجودة حتى الآن. بعد تخرجه في الجامعة الأمريكية عمل في أحد فروع البنوك الأجنبية بمصر، ثم انتقل إلى فرعه بلندن كما هو معروف، وخلال ذلك قام البنك بشراء ديون مصر، وهي عملية لم تخضع لأي مراقبة بالطبع ولم تتوفر فيها الشفافية، فلا يعرف ما إذا كان المشتري البنك نفسه أو جمال الذي تردد وقتها أنه قام بشراء ديون الصين، ولا يعرف أحد حتى اليوم التكلفة التي دفعتها مصر من مبالغ إضافة إلى أصل الدين. المهم أن ثروة جمال تضخمت بعد تلك الخطوة فأسس شركة "ميد انفستمنت" المسجلة في لندن بعد عودته إلى مصر، برأسمال مائة مليون دولار. ومنذ سنوات عديدة وقبل أن يتضخم النفوذ الرسمي لجمال ويقفز إلى مقدمة المشهد السياسي قدرت إحدى المصادر الاقتصادية العالمية الموثوق فيها ثروته بأكثر من 750 مليون دولار. الخلاصة أن البعض يسأل مرارا عن وظيفة جمال على أساس أنه يعمل عملا غير تنفيذي لا علاقة له بوظائف الدولة كرئيس للجنة السياسات منذ عام 2002 بينما الواقع أنه رجل أعمال من مستوى رفيع يعمل في مجال الاستثمار، وبالقطع قد يكون شريكا لرجال أعمال آخرين في مجالات مختلفة، وبسبب ذلك تحقق لهم الصعود الكبير سياسيا واقتصاديا وتضخمت دائرة نفوذهم واتصالاتهم بمؤسسة الرئاسة التي يجب أن يكون لها وقارها وحساسيتها الشديدة كجدار أول لحماية الأمن القومي. إذا كان الوضع هكذا فهل يجوز أن يتسلم جمال مبارك الذي لا يشغل أي وضع تنفيذي مهام الرئيس ورئيس الحكومة ويوضع في يده ملف الاقتصاد، ويصبح المسؤول عن تعيين رئيس الحكومة، وهو فعليا من جاء بأحمد نظيف وعين يوسف بطرس غالي وزيرا للمالية. خلال تلك الفترة الحالكة من تاريخ مصر تسارعت عملية بيع أصول القطاع العام بأسعار قيل إنها تقل عن نصف قيمتها، وظهرت تحت سماء الوطن أسماء عنكبوتية مثل أحمد عز الذي امتد نفوذه من الدخيلة بالاسكندرية إلى المسئولية المباشرة مع جمال عن سياسة الحزب والحكومة والملف الاقتصادي والتشريعات الجديدة. في الواقع ذلك يناقض أدنى معايير الشفافية، لأن رجل الأعمال جمال يتخذ قرارات اقتصادية في غاية الخطورة دون سؤال من أحد أو تفسير منه ولا ندري مدى استفادة استثماراته منها. يمارس مهاما تنفيذية لا يحاسب عليها لأنه لا يشغلها بصفة رسمية، فهو يتنقل داخل الدولة ووراءه باستمرار ما لا يقل عن خمسة وزراء يحملون دفاترهم ويسجلون ملاحظاته وينفذونها، ومن يدري فقد يخاطبونه أحيانا بفخامة الرئيس عندما يبدو في منصب أبيه وأحيانا أخرى بدولة الرئيس عندما يسند لنفسه مسئوليات من صميم مهمة رئيس الحكومة. التحليل النهائي لهذه اللخبطة تصل بنا إلى استحالة أن يتولى غير جمال مبارك رئاسة مصر، لأن مبارك الأب يعي جيدا الطبيعة المصرية، فعندما انتهى عهد عبدالناصر تولى عهد السادات محاكمة أخطائه والكشف عما حصل فيه.. والشئ نفسه في عهده هو. لا شك أن خطايا عهد مبارك كثيرة جدا، أخطرها اطلاق بد ابنيه في جمع الثروة، حتى جاءت بطريق حلال وشرعي، فان من يتوسد الحكم عليه أن ينأى بنفسه وأسرته وكل من يملك أمره عن مواطن الشبهات، والشبهة الأكبر هنا عندما يصبح ابن الحاكم مليارديرا .. فمن أين له هذا، وهل لو كان ابن موظف عادي في الدولة سيصير إلى ما صار إليه؟! لن يستطيع جمال أو شقيقه علاء أن يعيشا في مصر مع أي حاكم جديد حتى لو جاء من نفس طبقة السلطة الحالية، فجهنم سترسل حممها عليهما لو حدث، وسيجدان نفسيهما عرضة للبلاغات والمحاكمات وفتح الدفاتر. وحتى لو خرجا بأموالهما حينها، فلن يسلما من مطاردة القانون الدولي لو عقد نظام الحكم الجديد النية على الشفافية واسترداد شرعية الدولة وأموالها واقتصادها المنهوب. لا اتصور أن جمال مبارك سيتخلى عن حلم الرئاسة بسهولة لأنها الجدار الفاصل الذي سيحميه من المساءلة الآجلة.