منذ ما يزيد علي أربعين سنة -1968- ثارت هوجة كبيرة في الإعلام تتحدث عن ظهور السيدة العذراء علي أبراج كنيسة قديمة قليلة الزوار في حي الزيتون .. وكعادة الشعب المصري المغيب تجمعه زمارة وتفرقه عصا – كما يقول المثل- احتشدت الغوغاء أمام الكنيسة وسرت الشائعات حول هذا الظهور المزعوم فهذا مريض شفته .. وهذا قعيد أقامته .. وهذا مفلس أغنته .. وهذا أعمي بصرته .. وهكذا انطلقت الصحف القومية – وكانت الصحف كلها في ذلك الوقت قومية – تطبل وتزغرد للعذراء التي خصت المصريين من بين شعوب الأرض وخصت كنيسة الزيتون من بين كنائس النصرانية جميعاً بهذا التجلي وآثرتنا علي بيت لحم والناصرة والقدس والفاتيكان. يحكي الشيخ الغزالي –رحمه الله – في كتابه الممتع " قذائف الحق " أنه خرج ومعه العلّامة الشيخ محمد أبو زهرة وبعض الشيوخ إلي حي الزيتون ليشهدوا علي الطبيعة حقيقة هذا الظهور المزعوم يقول الشيخ " وذهبنا أنا والشيخ محمد أبو زهرة وآخرون ومكثنا ليلاً طويلاً نرقب الأفق ونبحث في الجو ونفتش عن شيء فلا نجد شيئاً البتة .. وبين الحين والحين نسمع صياحاً من الدهماء المحتشدين لا يلبث أن ينكشف عن صفر .. عن فراغ .. عن ظلام يسود السماء فوقنا .. لا عذراء ولا شمطاء. وعدنا وكتبنا ما شهدنا وفوجئنا بالرقابة تمنع النشر " ا.ه . ونضيف أن الدكتور الفندي أستاذ الفلك الشهير لما أراد نشر مقالة حول تفسير علمي لظاهرة ماظنه الناس العذراء منعوا نشر ما كتب .. بل لما نشر بحثه في مجلة الوعي الإسلامي منعوا دخول المجلة إلي مصر. وهكذا تحولت تلك الكنيسة المغمورة إلي مجمع كنسي كبير اتخذوه مزاراً سياحياً ضخماً وأعادوا تخطيط المنطقة لتناسب هذا الموقع الهام .. موقع تجلي العذراء كما يزعمون. كان النظام في ذلك الوقت حديث عهد بالنكسة ومحاكمات ضباط الطيران ومظاهرات الطلبة وصدامهم بالشرطة .. وكان يراد أن ينشغل الناس بشيء يلهيهم عن النظر فيما يجري وقد وجدوا بغيتهم في هذا الحدث فما كانوا ليفرطوا فيه. تذكرت هذه الحادثة – وكنت من معاصريها – وأنا أري ما حدث يتكرر مرة اخري بنفس السيناريو والتفاصيل وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن دون أن يكون هناك الغزالي ومحمد أبو زهرة يقولون كلمة الحق في وجه هذا الطوفان من الدجل والشعوذة ليعرف الناس .. وإنما إعلام هيمن عليه المال الكنسي فانطلق يطبل ويزمر بينما سكت علماؤنا عن التبيين والتحذير من مغبة مثل هذا الاعتقاد. والحقيقة أن الكنيسة الأرثوذكسية تعاني هذه الأيام من أزمات خطيرة تكاد تعصف بها وتفرق الأتباع من حولها . أولها : هو عملية التبشير البروتستانتية واسعة النطاق والتي أدت إلي تصاعد أعداد المغادرين إليها بصورة مطردة حتى أن بعض القيادات الكنسية الرسمية ذكرت أن هناك خطة للقضاء علي الأرثوذكسية لصالح البروتستانتية خلال عشرين سنة . ثانيها : تصاعد أعداد المنتقلين إلي الإسلام تصاعداً نوعياً جعل كثيراً من ذوي المكانة العلمية والمجتمعية يدخلون الإسلام احتراماً لعقولهم وفكرهم. ثالثها : التمزقات داخل قيادات الكنيسة وعمليات العزل والشلح بصورة غير مسبوقة أحدثت انشقاقات خطيرة إلي جانب التنازع حول من سيخلف البابا من المحيطين به والحرب المكتومة بين أتباعه. رابعها : مشاكل الكنيسة مع العلمانيين واختلافهم حول كيفية إدارة الكنيسة وأموالها وغياب الشفافية وغير ذلك مما ينذر بشقاق نوعي آخر. خامسها : دخول الكنيسة في معارك سياسية وطائفية لا تلقي قبولاً كبيراً عند عامة المسيحيين وخاصة في الصفوة منهم واتجاه كثير منهم إلي اعتزال العمل العام. هذه المشكلات ومشكلات أخري كثيرة ربما تكون هي دافع الكنيسة لإخراج هذه التمثيلية لإعادة جذب الناس للحظيرة الكنسية عن طريق إظهار العذراء في صورة الداعم للقيادات الكنسية القائمة ومساندة سياساتها .. وهنا تثور عدة تساؤلات. أولاً : لماذا العذراء بالذات من بين القديسين والرسل الذين امتلأ بهم التراث الكنسي وما أكثرهم؟ هل المقصود هو إشراك المسلمين في هذه التمثيلية نظراً لمكانة السيدة العذراء في التراث الإسلامي. ثانياً : لماذا لم تظهر العذراء طوال هذه السنوات الأربعين السابقة رغم حالة الكنيسة للدعم المعنوي خاصة إبان إزمتها الشهيرة مع الرئيس الراحل .. هل لأن الإعلام الساداتي ماكان ليتجاوب مع هذه الدعوة ويثير لها الضجيج المطلوب في ذلك الوقت فتموت التمثيلية في مهدها ويزول الغرض منها ؟ ثالثاً : هل نستطيع أن نقول أن هذه الحادثة كشفت وبوضوح أولئك الإعلاميين الذين تمولهم مصادر كنسية ليتبنوا قضاياها ويدافعوا عنها من فلول اليساريين في الوقت الذي يعلنون فيه الحرب علي كل ماهو إسلامي .. وهل آن للشعب أن يعرف المخلص له وللحقيقة ممن يشتري بالمال ليدلس عليه ؟ رابعاً : لماذا خصت العذراء بلادنا من بين دول العالم المسيحي سواء من له قدسية خاصة مثل الناصرة وبيت لحم والقدس والفاتيكان أو من كان يحمل أغلبية مسيحية أو يحمل لواء الدفاع عن المسيحية بالجيوش والثقافة؟ خامساً : لماذا خصت السيدة العذراء القاهرة من بين محافظات البلاد .. هل لأن وسائل الإعلام تتركز فيها ليحدث ظهورها ضجيجاً إعلامياً وحشداً كبيراً ؟ ثم لماذا لا تظهر هذه الخوارق في الدول المتقدمة بينما تظهر في بلادنا المتخلفة من بين بلاد الناس ؟ علي كلٍ فالخوارق ليست دلالة علي صدق أو كذب أحد وإنما بعثت الرسل بالدليل والبرهان وكلما قلت مساحة العقل في حجة المحتج كلما لجأ المحتجون للخوارق والمعجزات لتغييب العقل وقهره بالمعجزة. أما آن لنا أن ننشغل بما يفيد يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.