في الوقت الذي يُحيِي فيه الفلسطينيون في هذه الأيام الذكرى الأولى للحرب الإجرامية التي شنَّتها إسرائيل على غزة، فإنه من الأهمية بمكان إعادة قراءة أهداف الكيان الصهيوني من هذه الحرب، فلم يكن الغزو الإسرائيلي لغزة فقط مجرد عملية عسكرية لوقف إطلاق الصواريخ وتهريب الوسائل القتالية، أو محاولة لترميم الردع الإسرائيلي، ولم يكن فقط مجرد محاولة أخرى لفرض النظام لدى الآخرين وإسقاط حكومة حماس المنتخبة، صحيح إن إسرائيل حاولت تحقيق كل هذه الأهداف، لكن الحرب في كل الأحوال مثلت في الأساس استراتيجية تقوم على العمل على شطب الزمان والمكان الفلسطيني، ومحاولة لصياغة الواقع الفلسطيني بما يتناسب مع المصالح العليا للكيان الصهيوني، ومن الأهمية الاستماع للمفكر الإسرائيلي أورن يفتاحيل الذي يؤكد أن جميع المستويات والنخب في إسرائيل تحمَّست شاركت في الحرب على الفلسطينيين، حيث إنه إلى جانب العسكريين والسياسيين، فقد شارك بحماس منقطع النظير الفنانون والإعلاميون. لقد شنت إسرائيل عدوانها على غزة لأن صعود حركة حماس أحبط إمكانية تمرير حلّ الدولتين، حيث حاولت إسرائيل المزج بين الحصار والقصف والقتل كوسائل متبعة لإحباط هذا الهدف، فبالنسبة للنخب الحاكمة في إسرائيل فقد مثَّل صعود حماس مصدر قلق كبير، حيث أنه كان يعني تهديد تنفيذ فكرة حل الدولتين، على اعتبار أن هذه الفكرة تعتبر مثالية بالنسبة لإسرائيل؛ لأن هذه الفكرة تعني مواصلة إسرائيل مشروعها الاستيطاني الإحلالي بشكل لا نهائي". وكما هو الحال في كل مراحل تاريخها، فبدلًا من مواجهة الواقع بكل تعقيداته لجأت إسرائيل إلى إرهاب الدولة، وهي لا تدرك أن مزيدًا من أطنان من الرصاص والمتفجرات ومزيدًا من قتل الأطفال وإحراق مدن القطاع لن ينجح في إسكات صوت الفلسطينيين، ومما لا شك فيه أن إسرائيل انطلقت من منطلقات عنصرية قبل مشاركتها في الحرب، وكما يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف فإن أحد أهم أهداف الحرب على غزة كان " تطبيق مبدأ أصيل في الفكر الإسرائيلي المؤدلج بالصهيونية يقوم على ضرورة تسديد الضربات إلى الفلسطينيين من أجل تلقينهم درسًا، وهذه هي إحدى الفرضيات الأساسية، التي ترافق المشروع الصهيوني منذ بدايته"، ويرى سيغف أن المنطق الذي يسوّغ هذا السلوك يقول: "نحن -اليهود- ممثلو التقدّم والحضارة، الحنكة العقلانية والأخلاق، والعرب هم رعاع بدائيون ذوو نزعات عنيفة وهوجاء، جهلة لا بُدّ من تربيتهم وتعليمهم الفهم الصحيح بطريقة العصا والجزرة"، على حد تعبيره. لقد افترضت إسرائيل أن تؤدي الحرب إلى انهيار سلطة حماس "وفقًا لفرضية أخرى ترافق الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، وبموجبها أنه في وسع إسرائيل أن تفرض على الفلسطينيين قيادة وفق القياسات الإسرائيلية، تتنازل عن تطلعاتهم القومية، فمرة أخرى تعيد إسرائيل إنتاج الفرضيات والمنطلقات التي بلورتها، والتي ثبت بطلانها مرارًا وتكرارًا، لقد كان العدوان الإسرائيلي على غزة يمثل مولد عقيدة دفاعية جديدة في إسرائيل، وفحوى هذه العقيدة أن تتصرف إسرائيل باعتبارها دولة هوجاء في مقابل حركات مقاومة تتبنى استراتيجية الاستنزاف، إن ما تقدم يصلح لتفسير المعطيات الصادمة التي انتهت إليها الحرب على قطاع غزة، فقد كانت إسرائيل في هذه الحرب تنطلق من افتراض مفادُه أنه يتوجب حسم المواجهة مع الشعب الفلسطيني بغض النظر عن الخسائر في صفوف المدنيين. ومن المفارقات ذات الدلالة أنه في الوقت الذي يُحيي فيه الفلسطينيون الذكرى الأولى للحرب، برز في الجانب الإسرائيلي ما يمكن أن يشكّل مصدرًا آخر لتفسير الوحشية والفظاعة التي تعامل بها الجيش الإسرائيلي مع الفلسطينيين خلال الحرب؛ ففي فتوى بعث بها لجنود الجيش الإسرائيلي بمناسبة الذكرى الأولى للحرب، قال الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي الجنرال أفيشاي روتنسكي أنه يتوجب عدم إبداء أي رحمة أو شفقة تجاه الفلسطينيين، وجاء في الفتوى التي نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية: "لقد كان الهدف من الحرب الأخيرة على قطاع غزة التدمير وسحق الأعداء، ولم يكن واردًا أن نقوم بأسر أحد". وأضاف: "لقد قامت 80 طائرةً بقصف أهداف مختلفة في أرجاء قطاع غزة، ثم بدأ القصف المدفعي من الدبابات، فقد كان الواجب علينا أن نقاتل الغوييم (غير اليهود) بكل ما أوتينا من عزم وقوة"، لكن مما لا شك فيه أنه على الرغم من وحشية الحرب، إلا أنه كان محكومًا عليها بالفشل، وكما يقول يورام شفارتس المحاضر في "مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات"، فقد دللت حركة حماس خلال المواجهة على أنه من الصعب جدًّا تحقيق حسم على منظمات تتخذ أسلوب حرب العصابات، وبخلاف نتائج حروبها مع الجيوش العربية، فقد نجحت حركة حماس في منع إسرائيل من تحقيق نصر عليها، رغم البون الشاسع في موازين القوى الذي يميل بشكل جارف للجيش الإسرائيلي، لقد كان الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني لصدّ العدوان كبيرًا، فبالإضافة إلى أكثر من 1500 قتيل، سقط حوالي سبعة آلاف جريح، بشكل أصبح معه قطاع غزة يضمّ أعلى نسبة من المعاقين في العالم، لقد أدى استخدام إسرائيل خلال الحرب الذخائر المحرمة دوليًّا والمواد الإشعاعية إلى ارتفاع عدد المواليد المشوَّهة وزيادة معدلات الإجهاض المبكر، لقد باتت تربة قطاع غزة تحتوي على مواد مسرطنة ومعادن سامة يكابد الفلسطينيون الكثير من العناء بسببها، مع العلم أن هذا العناء مرشح للتعاظم. قصارى القول أن إدراك طبيعة الأهداف التي حاولت إسرائيل تحقيقها خلال حربها على قطاع غزة يسلط الضوء على جوانب أخرى، لا سيما الانقسام الفلسطيني الداخلي والسوك العربي تجاه حركة حماس. فمن الواضح أن رفض سلطة عباس التوصل لاتفاق ينهي حالة الانقسام، بالإضافة إلى مشاركة بعض الدول العربية في الحصار على غزة يمثلان في الواقع مساهمةً مباشرةً في الجهد الإسرائيلي لإسقاط حماس. المصدر: الإسلام اليوم