كشفت الأحداث الأخيرة التي صاحبت أو أعقبت مباراة مصر والجزائر ، وتجييش الإعلام الرسمي والخاص في معركة مزيفة ومهينة لمصر ومقامها وكرامتها وصورتها في محيطها العربي والعالم كله ، وانبطاح مؤسسات الدولة وخوفها أمام إرادة بعض شباب "الظل السياسي" ، كشفت عن أن المغامرين الجدد في السياسة المصرية يمثلون خطرا حقيقيا على المصالح المصرية القومية ، ولا يتصفون بالحصافة أو الخبرة الكافية لإدارة دولة بحجم مصر وتعقيدات علاقاتها الدولية وعلاقاتها العربية بشكل خاص ، وجعلت الكثيرين في مصر يضعون قلوبهم على أيديهم من أن تتيح الصدف أو الترتيبات العاطفية لهؤلاء الشباب المغامر فرصة توسد قيادة مصر وحكمها ، لأن هذا الأمر إن حدث فستدخل البلاد في دوامات متتالية من الأزمات تهدر طاقاتها وتعرض مصالح الشعب المصري للخطر الحقيقي ، فإذا كانوا قد عجزوا عن إدارة أزمة مباراة كرة وجعلتهم تداعيات الأمور يتورطون في مثل هذه المهاترات والحروب الإعلامية المتكلفة والتلاعب الخطير بأجهزة الدولة ومؤسساتها ، فكيف إذا تعرضوا لضغوط عصبية ونفسية وسياسية في أحداث أخرى أكثر خطورة وجدية وعمقا ، أيضا كشفت هذه الأحداث عن أن التصور السائد بأن البديل المطروح الآن هو لجنة السياسات وأمينها العام جمال مبارك ، هو تصور غير دقيق وغير مكتمل ، وأن هناك دائرة متسعة من "الشباب المغامر" في الاقتصاد والإعلام والصحافة والرياضة والفن والسياسة والدين هي في صلب مشروع "التوريث" على الرغم من أنها لا تنضوي تنظيميا تحت لافتة "لجنة السياسات" ، بل إن بعض هؤلاء هم أقرب وألصق بالمشروع وصاحبه من وزراء لجنة السياسات أنفسهم ، لا يجرؤ وزير في الحكومة المصرية ولا رئيس مجلس الشعب ولا رئيس ديوان رئيس الجمهورية ولا أي شخص في الدولة بعد رئيس الجمهورية أن ينادي علاء مبارك أو جمال مبارك علانية باسمه مجردا ، فعلها مذيع من هؤلاء على الهواء مباشرة وكررها أكثر من مرة ، ربما ليبعث برسالة خاصة إلى من يهمهم الأمر ، كشفت الحادثة "الكاشفة" أيضا عن أن بعض الصحف والأقلام التي كان يظن أنها معارضة ومتحفظة على مشروع التوريث ومناضلة من أجل حق الشعب في الاختيار ، أنها في صلب مشروع التوريث ، ولكن المسألة كانت أشبه بتوزيع أدوار ، حتى إذا حانت لحظة الحقيقة كشفت كل الوجوه أقنعتها ، فبعضهم تحول بقدرة قادر ، من الهجاء المزمن لمبارك وأسرته إلى مبشر بعبقرية أنجال الرئيس وإخلاصهم وقربهم من قلوب الجماهير ، أيضا كشفت الأزمة عن عمق حضور النخبة الاقتصادية الجديدة ، ومعظمهم من هؤلاء المغامرين الجدد أو المتحالفين معهم ، عمق حضورها في الإعلام الرسمي والخاص وقدرتهم على التأثير من خلاله على أجهزة الدولة فضلا عن قطاع غير قليل من الجمهور العاطفي بطبعه ، هذا هو الوجه الذي تجلى في هذه الأزمة بحكم أن الإعلام مكشوف بطبيعته ، ولكنه يبعث برسالة أخطر من قدرة هؤلاء على النفاذ والتأثير في قطاعات أخرى هي من النوع غير المرئي عادة ، مثل القطاعات الأمنية والقضائية بشرائحها وأذرعها المختلفة ، خاصة وأن القرارات والتوجيهات لم تعد تصدر وفق بنى مؤسسية أو قانونية أو دستورية ، وهو ما يؤذن بأن إدارة مصر قد تختطف في المستقبل القريب إلى دائرة غير مأمونة ، مكتملة الحلقات بما يصعب اختراقها أو كسرها ، تضيع فيها الحقوق ويغيب القانون وتموت العدالة وتتحول جميع مؤسسات الدولة إلى "ظل" باهت لا قيمة له ولا حضور ولا دور ، إن لم تكن أداة تنفيذ لإرادة هذه "الدائرة" ، وباختصار فالخطورة التي تواجهها مصر الآن ليست في طموح سياسي سلطوي لشخص أو أكثر ، بقدر ما هي مواجهة شبكة جديدة من أصحاب المصالح متداخلة ومتماسكة وتملك أدواتها السياسية والاقتصادية والإعلامية والدينية ، يحمي بعضها بعضا ، ويدعم بعضها بعضا ، ويتستر بعضها على بعض ، ولا يرجى صلاح ولا إنقاذ لمستقبل مصر إلا بإرادة تغيير حاسمة وقوية تقوم بتفكيك تلك الشبكة المروعة وتصفية نفوذها وإخضاعها لسيف القانون وتفعيل ملفات الجهات الرقابية المترعة ، في حملة قومية شاملة لتطهير مصر من الفساد . [email protected]