تُعَد قضية الانتماء السياسي والديني في مجتمعاتنا من القضايا التي أسيء فهمها، إِذ مازال البعض يعتبر أَنَّ اجتهادات قادة حزبه أوجماعته لها قداسة القرآن أو تزيد، وانبنى على ذلك عدة أمور، منها: تكلس هذه الأحزاب والجماعات وتوقف نموها، وهجرة المخالفين لهم فى الرأى أو عزلتهم، وأحيانا الوقوف فى الخندق المعادي، وقد يكون فى هؤلاء من أهل الثقة والكفاءة ما ليس فى قادة الأحزاب أنفسهم، وقد أصاب الأستاذ محمود سلطان حينما أطلق عليهم فى أحد مقالاته "الأقليات الإِسلامية فى مصر"، وقد وجد هؤلاء –كتابًا وقراءً- في صحيفة المصريون ملاذًا لهم، يعبرون فيها عن رأيهم، ويستمعون على صفحاتها إِلى صوت الحكمة والعقل، ويشاهدون الثبات على المبدأ فى توازن بين الهدف والواقع، لذا تعتبر الصحيفة –بحق- نموذجًا يحتذى فى عالم الصحافة، غير أَنَّه مما يلاحظ أَنَّ الصحيفة منذ فترة ليست بالقريبة انتقلت من موقف المتفائل إلى موقف المتشائم المحطم للآمال، الذي غلب على ظنه فشل الدكتور مرسي، ومِنْ ثَمَّ سقوطه غدًا أو بعد غد، وبدا للقراء أَنَّهم سلموا الراية وركبوا قطار الاستسلام من أقرب محطة، يظهر هذا من بعض الأخبار التي تبثها الصحيفة على صفحتها الرئيسة، ومن كتابات الأستاذ جمال سلطان، ويظهر أيضًا من تعليقات القراء على الأخبار والمقالات، وإِنْ كان هذا لا يُعَوَّل عليه كثيرًا، وقد يستند أصحاب هذا الرأي إِلى موقف الصحيفة من مبادرة حزب النور، مُتعلِّلِيين بأَنَّ المبادرة من الضعف بمكان، بحيث لا يحتاج ردها ورفضها إِلى أي مجهود، لذا هوجمت من كثير من الناس، ومُتعلِّلِين أيضًا بأَنَّ حزب النور نفسه- على هيئته الحالية- لن يكون حزبًا سياسيًا فاعلاً، إِلا في الحالات التي تتطلب كثرة عددية بعيدة عن أى احتمال للمخاطرة مِنْ قريب أو بعيد، فهو حزب يُقْدِم وقت الإحجام ويُحْجم وقت الإقدام، ويخشى منظروه أَنْ تصيبهم فتنة!! كما يرى هؤلاء أَنَّ الحزب نفسه عما قريب سيتحلل ذاتيًا مالم يذبح النرجسية بسكين، أو يقتلها بسيف لا حد له والنرجسية معناها: إعجاب المرء بنفسه وافتتانه بها. وفى نظري أَنَّ لمسلك الصحيفة فى هذا الأمر احتمالين: الاحتمال الأول: أَنَّ الثورة بالفعل فى خطر، وأَنَّ الصحيفة استشرفت المستقبل بقوة حَدْسها وصِدْقِهِ، واستلهامها لدروس الماضى وعِبَره، فبان لها مالم يَبِنْ لغيرها ومِنْ ثَمَّ دَقَّت أجراس الخطر، فالرائد لا يكذب أهله، والأمر لم يعد مقتصرًا على معارضة هشة لا تملك من أمر الشارع شيئًا، إِنَّما يتعلق برياح كثيرة تهب مِنْ كل اتجاه لتعاكس سير سفينة المشروع الإسلامي، منها وضع اقتصادي يسير من سيئ إلى أسوأ، ولا ينتظر تحسنه فى القريب العاجل، ومنها شباب متحمس يتحرك فى ظل المعارضة أو تتحرك هي في ظله، شباب في فئة عمرية خطيرة، تلك الفترة التي عجز علماء النفس والاجتماع فى الغرب حتى الآن عن أَنْ يضعوا لها منهجًا ثابتًا يتعاملون معها من خلاله، وهذه الفئة العمرية سقطت من المجتمع كله فى العقود السابقة، كما سقطت من حسبان التيارات الإِسلامية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، وهذه الفئة العمرية لا تستجيب لصوت العقل ولا لصوت العاطفة ، إِنَّما تستجيب لمخلوط مركب منهما بنسب يصعب تحديدها، مخلوط يكتشف هؤلاء الشباب فيه ذواتهم وتستهلك فيه طاقتهم، وهذا ما نفتقده فى بلاد العرب كافة.كما أَنَّ عدم التعامل مع الموقف بالجدية المطلوبة قد يُذهب بما تَمَّ إِنجازه، وعصفور فى اليد خير مِنْ عشرة على الشجرة الاحتمال الثانى: أَنْ يكون هذا مِنْ باب الخطأ فى الاجتهاد، وأَنَّ الثورة لا تزال فى مأمن بعيدًا عن العابثين، أَمَّا مَا يحدث على الأرض فهو مِنْ قبيل التدافع السياسي الذي قد يصل في بعض الأحيان إِلى ما هو أشد وأبعد ذلك بكثير، ويجب أَنْ لا نخضع أو نستسلم لشرذمة قليلين، لا يمثلون إِلا أنفسهم ومَنْ يحركهم فى الداخل والخارج، وليس على الاحتمالين مِنْ حَرَج، إِذ كلها اجتهادات سياسية يحتملها علم السياسة، وليس لأحد منها قداسة، ومعلوم أَنَّ علم السياسة مِنْ أوسع المجالات التى تعمل فى ساحة الفراغ التشريعي، تلك المنطقة الواسعة الرحبة التي تحيط بها- ولكن على مسافة بعيدة- قواطع النصوص والأدلة الشرعية، أما بالنسبة لترجيح أي مِنْ الاحتمالين، فأرى أَنَّه لا منافاة بينهما، وأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ، فلا مانع أَنْ نتفاءل شريطة أَنْ يكون تفاؤلنا مصحوبًا بالحذر والعمل الجاد، و أَنَّه يجب أَنْ ننزع أيدينا من الماء البارد، وأَنْ نتحرك فى كل اتجاه لاحتواء الآخر - الصغير والكبير- فى جو من المنطق والحكمة والعقل، ولا مانع أَنْ نُقدم التنازلات، شريطة ألا تَمَسَّ الرئاسة أو الدستور بسوء، أو تخرج عن مسار الديمقراطية المماثلة فى العالم المحيط، فالخضوع فى وقت الحاجة ذكاء، ومن ضحك أخيرًا ضحك كثيرًا -حفظ الله مصر من كل مكروه وسوء، آمين. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]