فى الطب كان يتم الإعتماد عبر العصور و حتى وقت قريب على خبرة الطبيب المعالج أكثر من أى شئ آخر ، و مع تزايد المعلومات فى مجال الطب بما لا يصلح معه أن يلم أى طبيب بكل المعلومات المتداولة فى الأبحاث العلمية و مع اتساع الفجوة بين اللغة التى يتحدث بها الباحثون و التى يتحدث بها الأطباء نشأ مصطلح (الطب القائم على الدليل) ثم تم تعديل المصطلح ليصبح (الممارسة القائمة على الدليل)، و هذا المصطلح يعنى باختصار أن يتم تجمع جميع الدراسات المتوفرة عن أفضل طرق علاج الأمراض ثم تنقيتها من الدراسات الغير متقنه ثم عمل تحليل إحصائى للنتائج المجمعة لهذه الدراسات بما يضمن لنا أن نعلم أفضل القرارات للعلاج ، و قد تم جمع كل هذه القرارات العلاجية فيما يعرف ب (تنقيحات كوكرين) نسبة إلى العالم البريطانى (ارشيبالد كوكرين). القرارات السياسية أيضا يسبقها زخم معلوماتى يحير الساسة، بالإضافة إلى أن المعارضة فى بعض الدول تحدث حالة من الاستقطاب قد ينتج عنه توتر أمنى بالدولة ، و كما هو معلوم أن كثيرا من الاعتراضات على القرارات السياسية من قبل المعارضة لا يكون سببه إلا الاختلافات الأيدلوجية، فكل فريق معارض لقرار ما قد لا يعارضه عن قناعة و لكن لأنه قرار المنافس السياسى و لو كان مكانه لتبادلا المواقع فصار المعارض هو صاحب القرار و صار صاحب القرار معارضا، و كما اشرت إلى وجود فجوة فى الطب بين لغة الباحثين و لغة الأطباء أيضا يوجد فجوة فى السياسة بين لغة الساسة و الجمهور، لكل هذه الأسباب اتجه بعض الساسة لمحاولة استلهام نموذج الطب القائم على الدليل و تطبيقه على القرارات السياسية، و ربما كان أول من استخدم هذا المصطلح بشكل واضح فى السياسة هو حكومة تونى بلير بانجلترا. و نحن أحوج ما نكون فى مصر - فى ظل حالة الاستقطاب الحالية - أن نطبق مثل هذا الأسلوب فى اتخاذ القرارات، و تخيل معى حجم المصالح المترتبة على استخدام الممارسة القائمة على الدليل فى ادارة القرارات فى أى دولة، إن ذلك سيحقق اشراك لجميع أطراف المجتمع بصرف النظر عن اختلاف ايدولوجياتهم لتحقيق النفع العام ، فنحن هنا لن نتحدث إلا عن أدلة و أرقام و دراسات علمية و هذا من شأنه أن يقوى ثقة المجتمع فى القرارات الصادرة عن مؤسسات صنع القرار و يقل حدة التوتر و التجاذب بين المختلفين فكريا. و لن يتم هذ الأمر إلا بعد ان تقوم الدولة بعمل توعية للمواطنين بأهمية الأسلوب العلمى فى التفكير وكذلك إطلاعهم على آليات صنع القرار بطريقة شفافة، كما أن الدراسة فى مرحلة التعليم الجامعى و ما قبل الجامعى يجب أن يدرج بها مقررات فى الممارسات القائمة على الدليل فى مختلف المجالات العلمية و الإجتماعية و هذا من شأنه أن يخرج لنا جيلا من الشباب متميز فكريا و بحثيا، و متى تكونت العقلية البحثية عند الشباب قل انتشار الشائعات – التى هى شرارة الفتن - فى المجتمع و قلت أيضا حالة الاستقطاب. ثم انه يجب على الدولة أن تقوم بدراسات مسحية بشكل مكثف لتحديد طبيعة المشكلات التى تواجه المجتمع أولا، ثم تقوم بعمل دراسات للجدوى الإقتصادية و السياسية و المجتمعية لأى قرار قبل صدوره بحيث نفاضل بين الحلول المقترحة مع تحقيق أعلى ترشيد فى الميزانية. و أخيرا يجب أن يتزامن مع صدور أي قرار سياسى أو اقتصادى تحديد أهداف واضحة لهذه القرارات شريطة أن تكون هذه الأهداف قابلة للقياس والتقييم بشكل كمي و أن يكون التقييم له اطار زمنى مسبق، ثم نضمن عملية تقويم مستمرة لهذا القرار و هذا أيضا من شأنه أن يضمن صدور قرارات تصحح مسار القرار الأول، فإذا لم يتحقق الهدف المرجو من القرار الأول فى الإطار الزمنى المحددة يتم تصحيحه أو إذا تغيرت الظروف المصاحبة لصدور القرار الأول أيضا يتم تصحيحه بشكل سريع و ذلك لتوفر جميع المعلومات نتيجة عملية التقويم المستمرة. و بهذا الأسلوب ستتوزع مسئولية اصدار القرارات على أكبر عدد من الباحثين و الخبراء من مختلف المجالات و بالتالى ستقل نسبة تأثير الإختلافات الفكرية على أى قرار سياسى أو اقتصادى فى الدولة، و ستهدأ نوعية المعارضة المتجنية و تصبح أكثر موضوعية فى نقدها. أحمد رجاء نور مدرس بكلية الصيدلة – جامعة المنيا أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]