أثار حديث الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ / محمد حسنين هيكل إلى إحدى المحطات الفضائية المصرية منذ فترة وجيزة، من أن الربيع العربي خطط له في شمال الأطلسي (الناتو)، ضجة كبيرة في العالم العربي، وتناقلته الكتابات الكثيرة ، سواء بالنقد أو التأييد، حسب قناعات الأشخاص ورؤيتهم،واتجاههم الفكري والسياسي، لكن جانب عدم القبول هذا الرأي، كان هو الأكثر بروزا،لأن الواقع والظروف والتوقعات، ترفض هذا الاعتقاد، وهذا ما أشار إليه الكاتب محمد حسنين هيكل نفسه قبل ذلك، في كتابه: (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان). وحديث المؤامرة، ليس جديدا على واقعنا العربي والإسلامي، حيث يتم إقحام نظرية المؤامرة على أغلب التحولات والتطورات التي تحدث فجأة دون أن تكون ضمن التوقعات عند بعض المحللين، ويأتي إطلاقها، إما لأسباب أيديولوجية وسياسية، وإما هروب من التقييم الصحيح لما جرى، ويجري عند حدوث مثل هذه التحولات والأحداث الكبيرة الصادمة عند البعض. وعندما قامت ثورة 23 يوليو 1952، وبعد أن اختلف النظام الناصري مع الغرب، في أزمة تأميم قناة السويس، وصفقة التسليح التشيكية مع مصر، بعدما رفض الغرب ذلك، بعدها بسنوات، ظهر كتاب( لعبة الأمم) لمايلز كوبلاند، وقد كان عميلا سريا لوكالة الاستخبارات الأمريكية ، وذهب في هذا الكتاب إلى أن ثورة يوليو المصرية هى صنيعة أمريكية، ولعبت المخابرات الأمريكية دورا في قيامها، لكن الواقع، وفكر الضباط الأحرار، يكذب هذا الاتهام، وجمال عبدا لناصر نفسه، مناهض للفكر الغربي الليبرالي، وسياسته القومية العربية، تدحض هذا الاتهام، على الرغم أن الكثير من السياسيين الذين يختلفون مع النظام المصري في الستينات هللوا لهذا الكتاب ، واعتبروه، فرصة ثمينة لتوجيه الاتهام لنظام عبد الناصر، فكيف نصدق مايلز كوبلاند، في كتابه( لعبة الأمم)، ونرى السياسة الناصرية تفترق تماما مع النظام الليبرالي الرأسمالي والسياسات الغربية ؟! حتى الشيوعيون في العالم العربي، هللوا لهذا الكتاب بعد أن وقف عبد الناصر مع عبد السلام عارف في صراعه مع عبد الكريم قاسم، والحزب الشيوعي العراقي،والآن.. فما جرى في العالم العربي في 2011، فيما سمّي ب ( الربيع العربي)، من المستحيل أن يكون الغرب وراء تلك الأحداث والتطورات الشعبية التلقائية،لأن المنطق والعقل والظرف القائم،وسياسات الأنظمة التي سقطت في علاقاتها القوية مع الغرب، يكذّب هذه المقولات، بل ويدعونا هذا القول عن علاقة الغرب بالربيع العربي، إلى الضحك والبكاء في آن معا!.فلماذا لم يقبل الأستاذ/ هيكل، اتهام (مايلز كوبلاند) عندما اتهم ثورة يوليو بأنها صنيعة أمريكية ،ويقبل الآن ما يقال عن الربيع العربي في تونس ومصر ولبيبا وسوريا بأنه من صنع الناتو؟! والحقيقة أن هذا الرأي مجرد توهمات، وتوقعات غير صحيحة في أذهان أصحابها، ربما لإراحة أنفسهم من عناء التفكير الجاد المنطقي والواقعي لكل المتغيرات التي حدثت، ولم تجري المراجعة الحصيفة للتحولات في عالم اليوم بمعطيات متأنية ، لكون هؤلاء، كما أرى ، لا يزالون أسرى إعلام الحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين في ذلك الوقت ، قبل سقوط أحدهما ، وانهياره، وانقسامه إلى دول متعددة ، والقصة هذه معروفة للجميع . وهذا يذكرني أيضا بحدث وقع منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت،فعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ضد شاه إيران، محمد رضا بهلوي، كتب البعض، أن هذه الثورة هي من صنع الغرب ومؤامراته ضد شاه إيران ،وان هذه الثورة هي صنيعة غربية لأهداف بعيدة المدى، أو لكبح جماح طموحات الشاه السياسية في ذلك الوقت !! وهذا كلام لا يصدقه العقل أبدا، ذلك أن الثورة في إيران لم يصنعها الغرب،ولم يكن يسعى إلى ذلك ،لأن نظام الشاه تربطه بالغرب علاقات كبيرة وإستراتيجية،ولحسابات كبيرة، خاصة في ظل وجود الاتحاد السوفيتي السابق، والمد الشيوعي آنذاك ، والصراع بين القطبين الكبيرين على أشده .ولكن الغرب عنده من مراكز البحث وصناعة القرار السياسي ،ما يعينه من استشراف المستقبل، وما يدور في عالم اليوم من خلال أجهزنه ومخابراته، ولديه المعرفة الكاملة فيما يدور من أحوال في بلد صديقهم شاه إيران ، وأسباب قيام الثورة ،وتصاعدها،بشكل جعل الولايات المتحدة، توقن أن هذا النظام آيل للسقوط ، ولن تستطع أن تفعل شيئا لمصير هذا النظام، مع معرفتها أنها ستخسر من هذا السقوط الكثير من المصالح، وحصلت هذه الخسارة فعلا بعد ذلك، وقيل أنهم نصحوا الشاه، بما يدور في الداخل الإيراني من تذمرات شعبية، اقتصادية، وسياسية، لكنه لم يستجب، بسبب تقارير مخابراته ( السافاك) التي تخفي عليه الحقائق الداخلية كما عرف بعد ذلك هو حتى وقعت الثورة، وطوفانها الكبير في إيران، ولم تستطع دول الغرب أن تفعل له شيئاً ، ولن تستطع ، ذلك أن هذه هى خيارات الشعوب ، وإرادتها في التغيير والثورة ، كما أن الغرب يأخذ أولوية مصالحه في المراتب الأولى فهو رفض استقبال شاه إيران ، حتى لمجرد العلاج! . ذلك أن الغرب يعرف أن هذا الاستقبال سيكلفه كثيراً، مع أن التكلفة حصلت بعد ذلك حتى دون استقبال الشاه وعلاجه ؟! ، وهم يدركون أن هذه المواقف لها سلبيتها الأخلاقية ،لكن الغرب يتعاطى مع لغة المصالح، ويتحرك وفق ما تمليه الديمقراطية الضابطة لديه، وحسابات الربح والخسارة. وإذا كانت هذه الثورة الشعبية من صنع الغرب ومكايده ، كما يقول أصحاب نظرية المؤامرة ، فإن الافتراض أن تكون العلاقات على أحسن ما يكون،، لكن المفاجأة التي صدمت هؤلاء الكتّاب كتبة الأوهام أن الخلاف بدأ من النظام الجديد في إيران منذ الأسبوع الأول، وبالأخص مع فرنسا التي احتضنت الإمام الخميني، عندما رفض النظام العراقي آنذاك، أن يبقيه في بلاده، بطلب من الشاه،بعد اتفاقه مقابل تنازل إيران عن مضيق شط العرب في إطار تبادل المصالح السياسية. ثم قصة الخلاف الكبير مع الولاياتالمتحدة، واحتجاز الدبلوماسيين في السفارة الأمريكية في طهران،بسبب تجسس موظفي السفارة الأمريكية الخ: لكن الإشكالية أن البعض يلغي عقله ويجتر بضاعة الحرب الباردة والتضليل الإعلامي المعتاد، ويطلق مسألة المؤامرات، وكأنها حقائق، وليست أوهام في أذهان هؤلاء . فالبعض لا يريد أن يعطي متسع لعقله لدراسة ما حدث، أو يريد أن يرمي هذا القول لهدف أيديولوجي فيلجأ إلى تفسير ( نظرية المؤامرة ) ولا شيء غير المؤامرة وهذا في الواقع هروب من نقد الذات ومواجهة الحقائق بكشف الأخطاء ومسبباتها ، والتي هي نتيجة منطقية لأسباب كامنة و بارزة في ذاتنا بغض النظر عن استغلال الأعداء والشامتين والمغرضين ،لكن الواقع الذي يجب أن نواجهه أن معطيات ومسببات جوهرية كانت من صنعنا .. أما ما ترتبت عليه وعنه من مضاعفات ومستجدات وتطورات وتدخلات بريئة أو خبيثة، فلها تفسير آخر وتقييم له مقاييسه ومعاييره ، ويخضع للنقد الذي يؤسس على منطق عادل بعيداً عن الأطياف الخادعة والقراءات الانفعالية .. فالبعض يتحدث عن المؤامرات تحاك ضدنا في وقت وحين ، وحتى الآن تتردد الأقوال عن هذه الفرضية التي لا تبارح ساحة أمتنا غير بقية أمم الخليقة ، فحرب 48 مؤامرة ...وحرب 76 مؤامرة .. وحرب 56 مؤامرة.. وحرب الخليج الأولى والثانية مؤامرة.. وأخيرا الربيع العربي الذي جاء شعبيا مؤامرة!!.. والأخطر أننا نسكت عن التفسير الموضوعي الذي كان من المفترض أن نسلكه ونتغافل عن أمور كثيرة، وظروف كان لها الدور الأساسي في وقوع ما حصل ،وهى نتيجة طبيعية للسياسات الخاطئة، والتبريرات السلبية التي ساهمت فيما حصل في ربيعنا العربي 2011،وللأسف أن البعض يتعامى ، أو ربما لا يريد أن يقبل ما حصل لرؤى معينة، أو لأسباب قد نجهلها،أو هكذا هو يريد التفكير فيما يدور في هذا الكون الفسيح، دون أن تكون هناك نظرة واقعية منه لما حصل وفق التقييم السليم، ومن الحق أن نذكر أن هذا الرأي لم يقله الأستاذ/ هيكل وحده ،فهناك الكثير من الكتاب والباحثين، يدندنون على هذا الوتر( الجدار القصير)[ المؤامرة]، لكن كما تقول الأمثال( الحق أبلج كالفجر والباطل لجلج)، (وما يصح في النهاية إلا الصحيح). أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]