واهم كل من تصور أنه كان بمقدور المعارضة السياسية في مصر الحيلولة دون تمكين «الحزب الوطني الديموقراطي» الحاكم من تعديل المادة 76 من الدستور وفقا للطريقة التي يراها، أو الحد من رغبته في فرض منهجه الخاص بالإصلاح السياسي على الجميع، بصرف النظر عن الوسائل المستخدمة والمتاحة. لجأت هذه المعارضة في البداية إلى الوسائل القانونية، محاولة استصدار قرار من المحاكم المختصة بوقف إجراء الاستفتاء، قبل أن تحاول الضغط بالوسائل السياسية فيما بعد، من خلال مطالبة الناخبين بعدم التوجه إلى صناديق الاقتراع، لكنها فشلت في الحالين. فالقضاء المصري رفض الاستجابة إلى مطلبها وقف إجراء الاستفتاء، كما رفضت غالبية الشعب المصري الاستجابة إلى ندائها بعدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع. فهل نستنتج مما حدث أن معركة التعديل حسمت لصالح الحزب الوطني؟ هذا ما يؤكده الحزب الحاكم، لكننا لا نعتقد أن الأمور سارت بالفعل كما تشتهي سفن الحزب الوطني. فمعركة تعديل المادة 76 من الدستور أفرزت حالاً من الاستقطاب غير المسبوق بين الدولة وحزبها الحاكم من ناحية، والمجتمع من ناحية أخرى. ولأنه لا يوجد فرق في الواقع بين الدولة والحزب الحاكم، فضلاً عن أن المعركة لم تكن مع المعارضة السياسية بالمفهوم الضيق للكلمة وإنما مع كل قوى المجتمع غير المرتبطة ارتباطا مباشرا وتنظيميا بالدولة وحزبها، فكان من الطبيعي أن يترتب على هذا الاستفتاء تحول عميق في صورة المشهد السياسي في مصر. فلأول مرة منذ نشأة التعددية السياسية في منتصف سبعينات القرن الماضي تجمع القوى السياسية الحزبية والمستقلة على موقف سياسي موحد يتم التعبير عنه، وبالتالي اختباره، من خلال صناديق الاقتراع، ولم يسبق للدولة أن ألقت بكل ثقلها السياسي والإعلامي على هذا النحو لاستنفار الجماهير وحشدها وتعبئتها للتوجه إلى صناديق الاقتراع، مثلما حدث قبيل وأثناء الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور. ومعنى ذلك ببساطة أن النتائج الرسمية التي أعلنها وزير الداخلية يوم الخميس الماضي 26 آيار (مايو) كانت أقصى ما يمكن للدولة وحزبها الحاكم أن يحققاه في مواجهة مجتمع مدني ما زال هشا وضعيفا، لكنه قابل للنمو بسرعة. وربما لا يكون بوسع أحد التحقق من صحة هذه النتائج على نحو مؤكد، أو من صحة الادعاءات المضادة للمعارضة بوجود تلاعب واسع، لم يكن إدلاء نسبة كبيرة من الناخبين بأصواتهم أكثر من مرة أمام لجان انتخابية مختلفة سوى واحد من مظاهره. غير أن أول ما يلاحظ على هذه النتائج أنها حاولت أن تبقي الأرقام المعلنة في نطاق المقبول كي تحظى بأكبر قدر ممكن من المعقولية. ولذلك فسنتعامل معها باعتبارها أرقاما حقيقية وصادقة تستوجب قراءة أخرى في دلالاتها، أطرحها على النحو التالي: الدلالة الأولى: أن الدولة لم تتمكن، على رغم جهودها الهائلة في حشد الناخبين وتعبئتهم، إلا من إقناع نسبة لم تتجاوز 53 في المئة من إجمالي الناخبين المقيدين في الجداول الانتخابية. قد يقال إن هذه النسبة كبيرة وغير مسبوقة في تاريخ الاستفتاءات. وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن هذا الاستفتاء بالذات كان الوحيد من بين جميع الاستفتاءات السابقة الذي اتسم بطابع سياسي وتعبوي أخذ شكل التحدي الواضح بين الدولة، من ناحية، والمجتمع، من ناحية أخرى. وقد يقال أيضا إن المهم أن الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع يشكلون غالبية الناخبين، ما يزيل أي شبهة حول صحة التعديل المستفتى عليه. وقد يكون ذلك صحيحا كذلك، لكن هذا الاستنتاج يقابله استنتاج آخر لا يقل عنه دقة وهو أن نسبة الذين وافقوا صراحة على نص التعديل المقترح من جانب الحزب الوطني تقل عن نصف إجمالي عدد الناخبين، وبالتالي تشكل أقلية، كما سنشير لاحقا. الدلالة الثانية: أن هناك ما يقرب من ثلاثة ملايين مواطن يشكلون نحو 18 في المئة من إجمالي عدد الناخبين الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع قالوا لا للتعديل. وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا محسوبين على المعارضة، الحزبية منها والمستقلة، أو حتى على جماعة الإخوان المسلمين، لأن جميع هذه التيارات طلبت من أتباعها عدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع. ويمثل هؤلاء، على الأرجح، جزءًا من النخبة العاملة في الدولة ربما تكون اضطرت، لسبب أو لأخر، للذهاب إلى صناديق الاقتراع، لكنها قالت لا، أو اختارت أن تذهب بمحض إرادتها إلى صناديق الاقتراع لتقول لا. وهذه نسبة لا يستهان بها، وبالغة الدلالة، وغير مسبوقة في تاريخ الاستفتاءات السابقة. الدلالة الثالثة: أن هناك أكثر من نصف مليون مواطن ذهبوا إلى صناديق الاقتراع وأدلوا بأصواتهم بالفعل، لكنهم وضعوا إما بطاقات بيضاء أو بطاقات تجيب على السؤال المطروح بنعم ولا في الوقت ذاته، ما أدى إلى بطلانها من الناحية القانونية. ومع ذلك ففي اعتقادي أن موقف هؤلاء يعد، من الناحية السياسية على الأقل، أقرب إلى المعارضة منه إلى التأييد. فالأرجح أنهم أرادوا أن يقولوا نعم لتعديل المادة على نحو يسمح بانتخاب رئيس الدولة من بين أكثر من مرشح، وهذا هو موقف كل المصريين، لكنهم أرادوا في الوقت نفسه أن يقولوا لا للنص المقترح بسبب تحول الضمانات الخاصة بالجدية إلى قيود مانعة. وإذا صحت هذه الطريقة في الحساب فإن نسبة الرافضين للنص المقترح ترتفع إلى 20 في المئة من إجمالي المقترعين. الدلالة الرابعة: أن إجمالي عدد الذين صوتوا صراحة إلى جانب النص المقترح لا يتجاوز 13.5 مليون مواطن من أصل أكثر من 32 مليون ناخب. أي أن نسبتهم أكثر قليلا من 40 في المئة فقط من إجمالي عدد الناخبين، وبالتالي لا يشكلون غالبية. ووفقا لهذا المنطق بوسع المعارضة أن تدعي أنها حققت انتصارا، لكنه انتصار للمجتمع في الواقع، وليس للمعارضة السياسية بمعناها الضيق، في مواجهة الدولة والحزب الحاكم معا. وهي نتيجة تؤكد على أي حال قناعتنا بأن الغالبية الساحقة من المصريين كانت تطمح في تعديل نص المادة 76 بطريقة مختلفة تفتح الباب أمام إصلاح سياسي حقيقي وليس شكليًا، وهو ما لم يتم. ومع ذلك فلا تزال معركة الإصلاح السياسي مفتوحة لم تحسم بعد. والسؤال الذي يفرض نفسه هذه الأيام هو: وماذا بعد؟. وهو سؤال تستدعي الإجابة عليه أن نتوقف قليلا عند حقيقة الأسباب التي أدت إلى عدم ارتياح المصريين لنص التعديل الذي دخل حيز التنفيذ فعلا. فهذا النص ينطوي في الواقع على ثلاثة أنواع من التمييز: الأول: يتمثل في التمييز بين الحزب الوطني والآخرين، فعدم الأخذ بمعيار توقيعات المواطنين واعتماد موافقة أعضاء المجالس المنتخبة معيارا وحيدا لضمان جدية الترشيح، وضع الحزب الوطني في موقف المتحكم في تحديد نوعية المرشحين، باستثناء مرشحي الأحزاب، في الانتخابات الرئاسية المقبلة فقط وليس في الانتخابات التالية. والحجة المستخدمة لتبرير هذا النوع من التمييز، وهي صعوبة التحقق من هذه التوقيعات، حجة واهية ولا تتفق مع المنطق السليم. الثاني: يتمثل في التمييز بين مرشحي الأحزاب وغيرهم. فاشتراط الحصول على موافقة 250 من أعضاء المجالس المنتخبة أغلق الباب كليا ونهائيا أمام إمكانية ترشيح أي شخصية مستقلة، وليس فقط المنتمين للتيار الإسلامي الذي يعتقد على نطاق واسع أنه يشكل التهديد الأكبر للحزب الحاكم. والحجة المستخدمة لتبرير هذا النوع من التمييز، ألا وهي تشجيع الأحزاب، لا تنطوي بدورها على أي منطق وتستثير التهكم والسخرية أكثر مما تستثير الرغبة في مقارعة الحجة بالحجة. النوع الثالث: يتمثل في التمييز بين أحزاب 2005 وأحزاب 2011، فبينما سيسمح للأحزاب القائمة حاليا بترشيح أي من أعضاء هيئاتها القيادية لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة من دون شروط، فرض عليها في الانتخابات التالية شرط الحصول على نسبة خمسة في المئة من مقاعد مجلس الشعب، أي حوالي 25 مقعدا، وهي نسبة لم يسبق لأي من الأحزاب القائمة حاليا أن حصل عليها في أي انتخابات سابقة، على رغم أن نشأة بعضها يعود إلى بداية انطلاق التجربة عام 1976 والحجة المستخدمة لتبرير هذا النوع من التمييز (حمل الأحزاب على تكثيف نشاطها) هي حجة مضحكة. ولحسن الحظ انتبهت أحزاب المعارضة إلى حقيقة ما ينطوي عليه هذا التمييز من رشوة عاجلة لإيقاعها في فخ طويل المدى. ويرى كثيرون أن تعديل المادة 76 على النحو الذي تم به لم ينجح إلا في شيء واحد وهو تثبيت الاعتقاد بأنه تم لغرض واحد، وربما وحيد، وهو فتح الطريق أمام تنصيب جمال مبارك رئيسا للدولة في التوقيت المناسب وبطريقة تبدو شرعية، شكلا وقانونا، حتى لو اعتورها بطلان مطلق، جوهرا ومضمونا. فالانتخاب المحتمل لجمال مبارك رئيسا للدولة لا يمكن أن يكون شرعياً إلا بعد إتمام عملية التحول الديموقراطي، وهو أمر يبدو مستحيلا في ظل استمرار الأوضاع الحالية. في هذا السياق يصبح اللجوء إلى الألاعيب القانونية أو الدستورية، المصممة خصيصا لوضع جمال مبارك على مقعد السلطة قبل الوصول إلى مرحلة الديموقراطية الكاملة، عملية مكشوفة تماما لا يمكن أن تنطلي على الشعب المصري ولن تؤدي إلا إلى المزيد من الاحتقان السياسي في مصر، فضلا عما تنطوي عليه من ضرر قد يسوق البلاد كلها نحو منحدر خطر. والواقع أن قناعة أعداد متزايدة من النخبة الوطنية بأن جماعات نافذة من رجال الأعمال والسياسة داخل الحزب الوطني لا تزال مصرة على المضي قدما في هذا الطريق الوعر من دون حساب للعواقب، وأن التعديل الدستوري الذي تم يندرج في سياق هذه الفكرة، بدأ كثيرون يشعرون بقلق حقيقي ومتنام على مستقبل مصر ومصيرها. ولذلك يتوجب علينا في هذه اللحظة الحاسمة من عمر الوطن مناشدة الرئيس مبارك، بحق تاريخه الوطني كواحد من رموز حرب تشرين الأول (أكتوبر)، أن يغلق هذا الباب نهائيا، ونقترح عليه المبادرة باتخاذ خطوتين متلازمتين يستحيل من دونهما معا فتح الباب المغلق أمام التحول السلمي نحو الديموقراطية في مصر. الأولى: أن يتخلى شخصيا عن رئاسة الحزب الوطني والشروع فورا في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للفصل نهائيا بين الدولة وحزب الغالبية، والثانية: أن يتخلى نجله جمال، موقتا، عن القيام بأي دور سياسي أو حزبي مباشر، والاكتفاء في المرحلة الراهنة، إن كان ثمة ضرورة لذلك، بالاستعانة بجهوده كمبعوث شخصي أو لتنظيم وإدارة ديوان الرئاسة، بعيدا عن أي ظهور إعلامي. وسيساعد ذلك كثيرا، في تقديري، على إزالة الاحتقان الحادث حالياً في الحياة السياسية المصرية بما يتيح فرصة أفضل أمام التهدئة اللازمة لبدء حوار وطني جاد ينتهي بوضع دستور جديد للبلاد. قد يكون بوسع البعض منا أن يلمح شكل العاصفة المتجمعة في سماء مصر البعيدة، لكن ليس بوسع أحد أن يراهن على حنكة الآخرين وحكمتهم. ومع ذلك فلا نملك إلا أن نذكر بالآية الكريمة: «وتمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين». نسأل الله السلامة لمصر ولأمتنا العربية والإسلامية.