من المؤكد أن مصر تموج في داخلها بتفاعلات جذرية لم تعهدها في العقود الثلاثة المنصرمة. وربما كان المشهد مبشراً لو أن تلك التفاعلات جاءت نتيجة مخاض وطني داخلي ومحصلة لحراك اجتماعي وسياسي مصري خالص، مهما احتدم الجدل بين الأفراد والمؤسسات وكل الهيئات، العاملة أو الخاملة، لكن الواقع السياسي المصري في الآونة الأخيرة تأثر بعوامل التدخل الخارجي، وخصوصاً في ظل وجود الولاياتالمتحدة الأميركية «سيداً فاعلاً دائم الحضور في عمليات التحول العالمي منذ نهاية الثمانينات»، والتعبير هنا للمنظّر الديموقراطي الأميركي ريتشارد هاس. والشاهد أن مصر تعيش حالاً من الشد والجذب بين الرؤى والطروحات الوطنية من جهة، وبين الضغوط والهجمات الخارجية من جهة أخرى، أضف إلى ذلك حديث الأيادي الخارجية الممتدة إلى الداخل. ولعل الخوف يتسرب إلى النفس من جراء الانسياق الداخلي عند جماعات كثيرة لسبب أو لآخر وراء المصطلحات المصكوكة في خارج الديار، وكأنه ليس من خير إلا في اتباع ما يرد إلينا عبر الأبواق الخارجية بعامة، والأميركية بخاصة. وليس من شر إلا في الإنصات لصوت الضمير الوطني، إذ يصبح التبصر في شأن الوطن من دون تهوين أو تهويل في حقه أمراً من قبيل الترويج للأجندة الأمنية، كما يحلو للبعض أن يلقي الاتهامات جزافاً. وإذا كانت قضية الديموقراطية والإصلاحات الداخلية في مصر مطلباً حقاً من حقوق الأمة، فبئس هذا المطلب إذا جاء على حساب أمنه وأمانه وسلامه الاجتماعي، فالبديل هو حال من الفوضى العارمة لا تبقي ولا تذر، ويبقى بعدها الحديث عن الإصلاح والديموقراطية مثل الحديث عن سلخ الشاة بعد ذبحها، وللمنظرين وحملة المباخر للديموقراطية الأميركية المنشودة النظر إلى العراق الديموقراطي الجديد. لكن قائلاً قد يقول إن وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس استطاعت أن تقدم الوصفة السحرية للمواءمة بين الإصلاح المطلق والخراب المبين من خلال ما سمته بالفوضى الخلاقة. وعند رايس أن ما قد يحدث سواء في مصر أو في غيرها من بلدان المنطقة من فوضى عارمة من جراء إفرازات ديموقراطية السماوات التي تشق فجأة APRITI CIELO هو نوع من «الفوضى الخلاقة» التي قد تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً. ومنطق السيدة رايس ليس بعيداً عن الفكر الديني والسياسي المعكوس والمغلوط، فالفكرة ذاتها عرفت طريقها إلى البشرية من خلال القول بمبدأ «فلنرتكب السيئات لتأتينا الحسنات» وبهذا نزداد حسناً. لكن صاحب هذا الكلام يغفل أولاً عدم ضمان لنفي مباغتة الموت قبل التوبة، وثانياً أن ترك الذنب أهون من التوبة، وثالثاً أن تبدل السيئات حسنات لا يعني أن المذنب صار اكثر ثواباً من غير المذنب. وبالقياس فان الفوضى الفجائية لا تضمن تخليقاً لواقع مستقر، كما أن تجنب الفوضى أجدى من البحث لاحقاً عن سبل مداواتها ورصيد الفوضى يعوق بديهياً مسار الخلق والتخليق، ولا داعي لتكرار ما سبق الإشارة إليه من جانب الجنرال الأميركي مارك كيميت من أن العنف والفوضى الأميركية الخلاقة في العراق ستمتد لنحو عشر سنوات في أقل تقدير. هل هذا إذاً هو النموذج الديموقراطي الأميركي الذي يحلم به رهط من المثقفين المصريين وبعضهم في مراكز قيادة وريادة إعلامية وفكرية لمصر؟ وما فائدة الديموقراطية إن كانت تجرّ على العالم وبالاً من الإجحاف وليس العدالة، وشروراً مستطيرة من جراء فقدان الاحترام المتبادل بين أبناء الوطن، وبالتالي سيادة نظريات التخوين وغلبة فكر المؤامرة والذي كثيراً ما يكون في واقع الأمر من باب الحقائق وليس من ضروب الخيال؟ الولاياتالمتحدة الأميركية التي تعيش اليوم حال تمدد الأيادي والأعين الخفية للدولة إلى مستوى خواص الحياة الفردية في الداخل تتطلع الآن إلى الخارج. وفي تطلعها يتساءل المرء: أي ديموقراطية بحكم التحليل اللغوي للكلمة «حكم الشعب» تود حاضرة واشنطن ابتعاثها كنموذج عالمي؟ ولماذا تستثني حلفاءها على وجه الخصوص من هذا النموذج - المقياس؟ هل هذه هي ديموقراطية حكم الغالبية أم ديموقراطية القلة التي تحقق مصالح الخواص والنخبة، وليذهب العوام إلى الجحيم؟ وأقول: هل تود الولاياتالمتحدة من خلال الزخم الديموقراطي الذي تصب جامه على مصر، الوصول بها إلى «ديموقراطية القلة» التي تريدها جماعات المصالح الأميركية وتتشدق بها كتائب المحافظين الجدد وتضع أعينها عليها منذ فترة وحديث القنوات السرية غير خفي على أحد؟ هل هذه القلة هي التي ستحقق لها مصالحها في إطار الفلسفة البراغماتية الأميركية المعهودة؟ أم أن واشنطن تسعى إلى إشعال فتيل الثورة والتمرد، لا سيما أنها تجد الكثيرين الذين ينقادون وراء الشعارات الطنانة ويوقنون أن الاتباع ايسر من الإبداع في إطار البحث عن مخرج وطني يكفل للجماعة المصرية التخلص من ربقة ديموقراطية القلة ويضمن لها الفكاك من نير حديث الفوضى؟